«تشرميل»... صرخةُ يأس

حول كتاب «تأمّلاتٌ حول عُنف الشّباب» لفاطمة مرنيسي، دار بيننا هذا الحوار:

ما الذي دفعكِ إلى نشر كتابٍ جماعيٍّ حول عُنف الشّباب؟

يشهد المغرب في الآونة الأخيرة ظاهرةً فريدة، تُعرف باسم «تشرميل». وهي سلوكيّاتٌ فرديّةٌ وجماعيّةٌ تنتشر في المراكز الحَضَريّة الكبرى بخاصّةٍ وينخرط فيها مراهقون ومراهقات وشبابٌ راشدون. هؤلاء الشّباب المتحدّرون من أحياءٍ شعبيّةٍ مُلاحقون من الشّرطة لأنّهم ينشرون صورهم على الفايسبوك ساخرين من المؤسّسة الأمنيّة: يعرضون أحذيةً وساعاتٍ فخمةً يدّعون أنّهم سرقوها، وخناجرَ يستخدمونها لترهيب الضّحايا. إنّ حاجة هؤلاء الشّباب إلى التّباهي بمنتجاتٍ مُترفةٍ لا يسعهم شراؤها تبدو لي كأنّها صرخةُ يأسٍ يُطلقونها لنا للاندماج مع المستهلكين الأثرياء لا لإعلان الثّورة عليهم. يجب أن نفهم من تصرفّاتهم أنّهم يرغبون في إزالة الفروقات بين الطّبقات. ومن هنا أهمّيّة تقديم المساعدة للشّرطة المواطنة حتّى تتمكّن من إتقان «ثقافة الصّور».

أمّيُّ الغد لن يكون الجاهـل في الكتابـة وإنّمـا الجاهـل في التّصويـر

ما الذي تعنينه بـ «ثقافة الصّور»؟

إنّها القدرة على تفكيك رموز الصّور لبلورة حوافز مَن أصدرها. منذ العام 1928، كان الفنّان المَجَريّ «لازلو موهولي - ناجي» قد توقّع بأنّ «أمّيَّ الغد لن يكون الجاهل في الكتابة وإنّما الجاهل في التّصوير». قمت لذلك بتحفيز المفكّرين على صياغة كتابٍ جماعيٍّ يُعلِم «الشّرطة المواطنة» بالضّائقة التي يعاني منها الشّباب «المشرملون».

«السّلفي» وباءٌ نرسيسيّ

ماذا عن ثقافة الصّورة في عالمنا العربيّ وظاهرة «السّلفي» أو التقاط الصّورة الذّاتيّة؟

أصبحت هذه الظّاهرة مشكلةً دوليّة. فبعض المجلاّت الأسبوعيّة كـ «Le Nouvel Observateur» وَصَفَت «السّلفي» بأنّها وباء موجةٍ نرسيسيّةٍ جديدة.

وكيف تربطين هذه الظّاهرة بـ «المشرملين»؟

هذه الرّغبة في التقاط الصّور الذّاتيّة لا تعني سوى الشّباب مثل «المشرملين» عندنا. وهذا الإدمان على نشر الصّور الشّخصيّة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ يعكس مجتمعاً يحبّ البروز.

في كتابكِ، تنسبين ذلك إلى «كرامة» الرّبيع العربيّ. هلاَ استفضتِ في الشّرح أكثر...؟

إنّ ظاهرة «التشرميل» المتمثّلة بالتقاط الشّباب صوراً لأنفسهم مع منتجاتٍ فاخرةٍ لا يسعهم اقتناؤها إلاّ عن طريق السّرقة تُذكّرنا بـ «كرامة» الرّبيع العربيّ. لخّص المصريّ وائل غنيم جوهر الكرامة في عنوان كتابه الذي يفصل فيه بين السّلطة واستئثار النّخبة Revolution 2.0: The Power of the People is Greater than the People in Power (الثّورة 2.0: إذا الشّعبُ يوماً أراد الحياة) (Houghton Mifflin Harcourt, 2012). مصطلح «الكرامة» كان الحلم المفتاح لثورة «الرّبيع العربيّ» في العام 2011 في عالمٍ سَلّطت فيه الصّور المتلفزة أو الرّقميّة الضّوء على الهوّة المشينة بين الأثرياء والفقراء. ذلك أنّ الكرامة تذكّر الأثرياء بأنّهم مسؤولون عن الأقلّ حظوة؛ يمكنهم الاستهلاك والتّنعّم بالحياة إنّما بعقلانيّة.

فشل الدّيمقراطيّة العلمانيّة

هل يجب فهم عودة الدّين إلى القرن العشرين على أنّها فقدانٌ للكرامة؟

تُعزى هذه العودة إلى فشل الدّيمقراطيّة العلمانيّة حيث نسبة الأثرياء لا تتجاوز 1% في أميركا! فحجم انعدام المساواة في هذه الدولة التي تظهر كنموذجٍ للدّيمقراطيّة أمام البلدان العربيّة، يُشبه روايةً خياليّةً هوليووديّة، عند قراءة إحصائيّات بول كروغمان: «كبار الفائزين... كانوا أعضاء نخبةٍ صغيرةٍ جدّاً: هم يمثّلون واحداً بالمئة أو أقلّ من السّكان» (The Conscience of a Liberal :Reclaiming America from the Right) (ضمير ليبرالي: استعادة أميركا من اليمين). هذا هو التّعبير الأسمى عن انتصار الفردانيّة. أمّا ديمقراطيّة الغرب فكان يُفترض أن تحوّل عالمنا إلى جنّة مساواة... التّبجّح بالثّراء باستهلاك منتجاتٍ فاخرةٍ لا جدوى لها بدلاً من الاستثمار في أعمالٍ تُغني المجتمع، هو أمرٌ يُدينه الإسلام لأنّ الثّريّ بذلك يوسّع الفجوة بينه وبين الفقير، فيُندّد بالنّزعة الاستهلاكيّة على أنّها سلوكٌ غير عقلانيّ. أقتبس هنا من القرآن الكريم ما معناه: «وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا...» (سورة لقمان 31، 18)».

لتغيير المحتوى الإعلانيّ

لا عجبَ إذاً في أنّ معظم خبراء وسائل الإعلام العربيّة التي دُعيت إلى بلدان الخليج بعد ثورة العام 2011 ندّدوا جميعهم، بغض النّظر عن انتماءاتهم الدّينيّة أو السّياسيّة، بالنّموذج الغربيّ الإعلانيّ الذي يعظّم نزعة الظّهور الاستهلاكيّة كاغتصابٍ للكرامة. من الضّروريّ تعديل محتوى الرّسائل الإعلانيّة حتى تتماشى مع أخلاقيّات الكرامة: «وهذا يعني، على حدّ قول المحلّلين، أنّ المحتوى الإعلانيّ الخلاّق في العالم العربيّ يجب أن يتغيّر سواءٌ كان على التّلفاز أو في الصّحف والمجلاّت أو على اللّوحات الإعلانيّة على الطّرقات أو على الإنترنت أو غيرها من المنصّات... وهم يصرّون على أنّ الإعلانات التي تروّج للاستهلاك بخاصّةٍ أو التّرف ستلقى رواجاً أقلّ. خلق النّماذج أو التّرويج بما يتماشى مع الميول الغربيّة يجب أن يفسح المجال أمام المزيد من الإعلانات التي تستجذب حسّاً عربيّاً بالتّضامن والمشاركة والالتزام...» (Pamela Ann Smith, Advertising in the Age of Revolution (باميلا آن سميث، الإعلانات في عصر الثّورة. مجلة الشّرق الأوسط، 2011).

لانكباب على ثقافة الصّور

من الملحّ تدريب صنّاع القرار والشّرطة على تفكيك رموز الصّور

بمَ تطالبين لمكافحة التّلاعب بالصّورة الذي يقع شبابنا ضحيّته؟

إنّ انتشار الصّورة في ثقافتنا (في الصّحف وعلى التّلفاز والإنترنت...) يجعل ثقافة الصّورة أو القدرة على «قراءة» الصّور ميزةً حيويّة. وتفرض الحاجة إلى حماية المواطنين ولا سيّما الأطفال من التّلاعب، تضمين المناهج المدرسيّة والجامعيّة فرعاً جديداً هو ثقافة الصّورة. كان الغرب قد شرع بذلك منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وكانت الجامعات الأميركيّة رائدةً في إطلاق استراتيجيّاتٍ تنطوي على دروسٍ في مادّة الثّقافة الافتراضيّة. لسوء الحظ، هُمّش هذا المشروع في العالم العربيّ بفعل الفوضى السّياسيّة التي أغرقت المنطقة في رمال الحروب. وفجأةً أدركتُ كم أنّه من الملحّ تدريب صنّاع القرار والشّرطة على تفكيك رموز الصّور، وصولاً إلى الانكباب على ثقافة الصّورة.

«التشرميل» ما هو إلاّ رغبةُ الشّابّ المهمّش في لفت الأنظار

كيف ترين المغرب في القرن الواحد والعشرين؟

أنا أوافق الكاتب والصّحافيّ رضا دليل على ما قاله في كتابه بعنوان «تشرميل، البشريّ وراء الظّاهرة» إنّ الثّراء غير المادّيّ للمغرب هو نهاية الخطاب النّرسيسيّ للنّخب الحاكمة والبدء بالإصغاء إلى المواطن الفقير الضّعيف كمصدر طاقةٍ وإبداع. ما يحفّز الشّباب بعامّةٍ وشباب الأحياء الشّعبيّة بخاصّةٍ هو رغبتهم في أن يحبّوا ويُبادلوا الحبّ. «التشرميل» ما هو إلاّ رغبةُ الشّابّ المهمّش في لفت الأنظار حتّى إن لجأ إلى أساليبَ مثل التّرهيب أو السّلاح الأبيض. فوراء الخنجر الذي شهَره الشّاب «مشرمل» في صورته، كائنٌ بشريٌّ يشعر أنّه مُهمَل. هذا ما يترسّخ في ذهننا عند قراءة كلّ الإسهامات في هذا الكتاب.

مقالات قد تثير اهتمامك