زينة الخليل: أسير على خطى الحب

لعالمها الذي بنته في مخيلتها، سحر خاص مميز لا يدخله سوى الأشخاص الذين يتمتعون بنظرة إيجابية للحياة وبروح مفعمة بالأحاسيس والمشاعر الوجدانية الغامرة. رغم التناقضات الجلية في فنها، الحياة والموت، الدمار والعمار، الحرب والسلم في صورة فنية باهرة حتى ما لبث أن تحول معرضها في "بيت بيروت" تحت عنوان "الكارثة المقدسة: شفاء لبنان"، الى مساحة للقاء والحوار والمناقشات والعبور في الزمن.  

وفي هذا السياق، كان "للحسناء" لقاء مع الفنانة التصويرية والكاتبة ومعلمة اليوغا والناشطة الثقافية زينة الخليل التي تحاول بأحاسيسها المرهفة أن تجعل العالم مكانا أفضل من خلال الفن، الموسيقى والأدب. 

لماذا اخترت "بيت بيروت" بالذات لمعرضك "الكارثة المقدسة: شفاء لبنان"؟

عادة أعمل في أماكن تشبه هذا البيت كتلك التي لا تزال صامدة أيام الحرب، أو المنازل المهجورة أو السجون، أو الخيم. من هناك أستطيع أن أرسم وأعبّر بطريقة حرة. لذا كنت أبحث عن مكان يشبه "بيت بيروت" لإيصال المعنى للناس بشكل أوضح. فكل هذه اللوحات التي أصنعها هي بالنسبة لي ”احتفال بالشفاء“ خصوصا أن هذه الأماكن كانت معرضة لفترة طويلة عبر الزمن الى الكثير من العنف والصدمات، وحتى بعد انتهاء الحرب الأهلية لم يكن هناك إعادة تأهيل نفسي للناس فلا زلنا نحمل على عاتقنا الكثير من الآلام لأنه لم يكن حتى اليوم هناك اعتذار رسمي لما هدر من دماء وكأن الحرب لا زالت تعيش فينا.

ما هي المراحل التي خضتها لإنجاز هذا المشروع؟

عملت على مراحل عدة. المرحلة الأولى للشفاء تبدأ بالتواصل وتسليط الضوء على المشكلة. نحن شعب يحب الحياة كثيراً والعيش وهذا أمر جيد، ولكن إذا لم نواجه مشاكلنا الماضية، اليوم، لن نتوصل الى مجتمع سليم في المستقبل، لأننا سنكون عرضة دوماً لتجدد الصراعات عن جهل. وعند الذهاب الى تلك المناطق، أكون قد أجريت بحثاً دقيقاً عن تاريخ هذا المكان والأحداث التي شهدها من أجل توثيقها لأننا أيضا كلبنانيين نعاني من "النسيان الجماعي" بعد الحرب، الأمر الذي يجبرنا أن نكون عرضة لتكرار التجربة لذا التسلح بالمعرفة قوة وواجب وضرورة لهذه الأجيال. في المرحلة الثانية، أحاول أن أتواصل مع المكان من خلال التماس الطاقة الموجودة فيه، عبر التأمل واستخدام الأحاسيس وتشغيل أنظمة المراقبة الحسية والاصغاء ومن ثم أقوم بإصدار الموسيقى من خلال الترانيم التي أصنعها في صوتي. أما الأشياء التي أرددها فهي مؤلفة من أربع كلمات: مودة، رحمة، غفران، سلام. كما أقوم بالغناء أو العزف على الموسيقى بناء على الجو الذي أستمده من هذا المكان. بعد ذلك أضع اللوحة القماشية أمامي وأقوم بتجميع الأشياء الموجودة على الأرض وأحرقها لأصنع في ما بعد الحبر لتلوين لوحاتي ولذلك نرى أن جميعها باللون الأسود. وليس عشقا للون، ولكني أقوم بالتركيز على المواد التي أريدها، إضافة الى استخدام الكوفية كأداة لتلوين اللوحات.

ما السبب وراء اختيار الكوفية؟ وهل هناك رسالة سياسية أردت إيصالها؟

اختارها بناء على مقولة شرقية قديمة تقول:” الأشياء الموجودة حولنا ليست حقيقة، إنما هي حجاب الوهم“، وأنا أريد من خلال لوحاتي أن أكشف عما ورائيات هذا الحجاب ورفع الستارة عنه بطريقة فنية مبدعة. فقد أضحت الكوفية اليوم رمزا للاعتصامات الثقافية البعيدة عن الصورة النمطية للعنف، وقد اخترت هذه القطعة التاريخية الفنية الرائعة بهدف الرفع من مستواها لتضحي في ما بعد رمزاً نبيلاً للتسامح والجمال.

كيف تفاعل الناس مع هذه اللوحات؟

كنت متواجدة بشكل يومي خلال المعرض الذي امتد 40 يوماً لأخبر الناس عن القصص وراء كل لوحة. وقد استطعت تحويل "بيت بيروت" هذا المنزل الذي كان مصدرا للقتل وملجأ للقناصين الى مساحة للسلم والمصالحة خصوصا الجيل القديم الذين عاشوا الحرب، إلا أن الصورة عادت من جديد عند البعض فقد انهار بعضهم وراحوا يبكون على ذكرياتهم الأليمة التي عاشوها خلال الحرب وما خلفته من صدمات ثقيلة على النفس. بهذه الطريقة تمكنّا من انشاء علاقة مبنية على الثقة، من خلال سرد قصة كل لوحة لاستخراج تلك الأحاسيس والآلام واعطائهم بعضا من الأمان.

ما نوع هذه اللوحات؟

اللوحات مبنية على "الفن التجريدي الحيوي"، أبدأ برواية قصة المكان وهذا ما يسمى "بالتفسير الحيوي" لإضفاء مادة غنية على القصة. أرسم وأطرز وأكتب على اللوحة القماشية والكتابة جزء أساسي من فني لأنه يزودني بالأفكار والمادة. كل لوحة صنعتها هي رواية عن منطقة لبنانية وقد يرى البعض فيها بوضوح الدمار والحرب والدم.

من يشتريها؟

المتاحف، المساحات العامة، والأشخاص الجريئون أصحاب القلوب القوية لوضعها والمثقفون والذين يقدرون الفن عموما والذين يريدون أن يشاركوا الناس من خلالها بالقصص التي لها معنى وبعد تاريخي.

كيف تقارنين هذه التجربة الفنية والثقافية مع تجاربك السابقة؟

في لبنان هذا أول معرض كبير لي، ولكني كنت قد أقمتُ عدة معارض في اليابان ولندن.. وكنت أركّز دوما على تجسيد "السلام والرحمة والغفران والتسامح" لأنني مؤمنة أن الفن يمكنه أن يغير العالم برمته لأنه يعمل على التأثير فينا أولا كأفراد.

ممن تستلهمين؟

ليس لدي أبطال في الشق الفني لأنني لم أر تشابها في أعمالي بعد، ولكنني متأثرة بصناع السلام في العالم مثل الرجل الأميركي الذي يدعى "رامداس" وهناك تلك المرأة التي أدرس معها بينيفشي سعيد وأتعلم منهم كما أتأثر كثيرا بقراءة الفلسفة الشرقية. أسير على خطى الحب.. فالحب هو الجواب عن كل شيء في الحياة وهو الدافع الحقيقي للاستمرار.

كيف حاولت أن تجسدي وتستخرجي الإيحاءات الحسية في المعرض؟

بعدما أنهي عملي مع اللوحة أقوم بعرض راقص وكأنه حفل ختامي للعمل. متأثرة جدا بمولانا جلال الدين الرومي خلال دراستي بحيث اشتهر عهده بالدراويش ورقصهم الروحاني الدوارى على أنغام موسيقية واشعار من كتابته. بعد الرقص آخذ لوحة وأكتب عليها "رحمة، مودة، غفران، سلام" وأدفنها تحت الأرض او الشجرة وأتركها هناك. ومن خلال تكراري لهذه الكلمات أبعث بعضا من الطاقة الحيوية لهذا المكان. ومثلا على ذلك فقد تركت في صوفر كلمة "رحمة" على أحدى الجدران وهي لا تزال هناك حتى اليوم موجودة وبعد انتهائي من كل شيء آخذ صورا عن المكان للتوثيق ومن ثم أصنع الفيديو الذي يتضمن قطعا صوتية وأقوم بتسجيلها بحيث أردد كلمات الشفاء أو أصدر ذبذبات صوتية بناء على أحاسيسي ومن ثم أحولها الى أصوات تجريدية على الكومبيوتر.

كيف تقيمين إقبال العامة على المعرض؟

كان ناجحا جدا بحيث تمكنا من جلب 10,000 زائر الى المعرض خلال 40 يوم. وقد تضمن المعرض، وجود عدد كبيرا من المواد الإعلامية كالفيديو والصوت واللوحات و108 منحوتة كما نظمنا 24 نشاط ثقافي مؤلف من ورشات عمل ولقاءات تحت عنوان "الشفاء والمصالحة" وحلقات نقاش عن "الحب" لحث الناس على السلام عبر الأحاسيس، وجرى عرض وثائقي عن كيف تطورت المدينة من ناحية التخطيط المدني ما بعد الحرب بالإضافة الى عرض فيلم مخصص للنازحين السوريين لتسليط الضوء على الأزمات والحرب في سوريا بالإضافة الى ورشات عمل بيئية للمناطق في بيروت كصبرا وشاتيلا لتحويل النفايات الى قطع فنية بالتعاون مع منظمات عالمية لتحقيق ذلك المشروع.

من هم الأشخاص الأمس حاجة للشفاء الشعب أم الساسة برأيك؟

كلنا بحاجة الى تلك الجلسات حتى لو كنا في أحسن حالاتنا لأن الحياة ليست سهلة على الاطلاق، كما يظن البعض ونحن نعيش في وقت يوجد فيه الكثير من العنف خصوصا ذلك النوع الموجه ضد أنفسنا. فالهدف من الفن الحيوي التجريدي هو خلق التغيير في العالم الذي يعتمد على الطاقة.

الى ماذا تطمحين بعد؟

أريد أن أجول بهذا المعرض على كافة المناطق اللبنانية وهذه مهمتي للسنة المقبلة. أريد أن أكمل هذا النوع من الفن بهدف جلب المجتمعات مع بعضها البعض لحثهم على النمو والنهوض وجدانيا وفكريا، وأود التركيز على المناطق التي عانت فترات طويلة من الحروب والنزاعات مثل سوريا، ساراييفو، العراق، بولاند.. فالجميع يحتاجون اليها.

أحب أن أظل بكامل نشاطي لأظل أعطي لمهنتي طويلا وأنمو وأطور المجتمع من خلالها وأجلبهم أكثر مع بعضهم البعض. فلا زلت أذكر أنه عندما كنت أصغر سنا أقمت أول معارضي عن النسوية وكنت أهاجم ذلك العنف الموجود عند رجال الميليشيات خصوصا الذين يحملون الأسلحة خلال الحرب. ولكن اليوم هذا الأمر تبدل خصوصا أنني بلغت ال42 سنة من عمري بحيث شعرت أن هذه الطاقة تحولت الى مشاعر تفيض حنانا كالأم، أشعر أنني أريد أن أجمع العالم مع بعضهم للتواصل والمشاركة والنمو خصوصا رجال الميليشيات فهم أكثر الأشخاص الذين يفتقدون لهذه المشاعر والأكثر عرضة للصدمات.

مقالات قد تثير اهتمامك