لماذا غُيّبت قضايا المـرأة فــي الحِـراك؟

إنّ القاعدة الشعبيّة، تُعدّ الأساس الذي يُمكن الانطلاق منه لرفع الوعي تجاه القضايا الأساسيّة المُتعلّقة بالمرأة، من أجل التوصّل إلى خارطة طريق تضمن لها نيل حقوقها كاملة. إلاّ أنّ ساحات الحراك المدنيّ الشعبيّ حيث اجتمع المواطنون للمطالبة بعيشٍ كريم، غُيّبت عنها قضايا المرأة (العُنف الأسري، منح الأمّ الجنسيّة لأبنائها، والمساواة الكاملة بين الجنسَين...) التي عُدّت ملحّةً في المدّة السّابقة، وإذا لُمّح إليها فبعددٍ قليلٍ من الشعارات واللاّفتات، في ظلّ غيابٍ شبه كاملٍ لمشاركة الجمعيّات النسويّة.

وإذا كانت قضيّة المرأة تتعلّق بوطنٍ حرّ، فإنّ أكثر من تفسيرٍ يُمكن التطرّق إليه، في محاولةٍ لترجمة الأبعاد التي قام عليها الحِراك، من وجهتَي نظر، ترتبط الأولى بعدم جندرة المطالب وحصرها بالمواطنة والدستور ومكافحة الفساد وهي قضايا تخصّ الرجل والمرأة على حدّ سواء، أمّا الثانية فتتعلّق بضرورة إيلاء حقوق المرأة درجةً مهمّةً من سلّم الأولويّات، بحيث تكون من بين العناوين الأساسيّة المطروحة. وبين هاتيْن الوجهتيْن، هناك آراء ارتأت الجانب الأسلم، فتحوّلّت إلى متلقٍّ سلبيٍّ في كثير من الأحيان.
«الحسناء» تحاول في هذا التحقيق، الإجابة عن الأسباب التي أدّت إلى تغييب قضايا المرأة عن الحِراك المدنيّ، والبحث في عُمق التفسيرات المُرتبطة بوجهات النظر المختلفة.

قضايا لم تُستثمر

الأكيد أنّ قضايا المرأة المحوريّة لم تُستثمر في الحِراك الشعبيّ الذي اتّخذ طابع الثورة مرّاتٍ كثيرة، على نحوٍ يؤدّي إلى استنباط قراراتٍ وحلولٍ تكون مرجعيّةً لإطارٍ عمليٍّ فعالٍ يخدم المرأة. وهذا ما اجتمعت عليه أغلب الآراء في هذا التحقيق، مؤكّدةً غياب الآليّة الوطنيّة التي يُمكن أن تنهض بالمرأة نحو الأمام. وعلى صعيدٍ متّصل، لا يُمكن إغفال الدور الرئيسيّ الذي أدّته النساء المُشاركات في التظاهرات، وقد كان لهنّ سلّةٌ من المطالب عنوانها الحياة الدّيموقراطيّة المدنيّة العادلة. وكانت شكلّت مشاركتهنّ أساساً لجهة التنظيم والدفاع عن الحقوق، وكان لهنّ أيضاً نصيبٌ من العُنف الذي مارسته العناصر الأمنيّة أكثر من مرّة، فضُربنَ وعُنّفنَ واُعتقلنَ.

مشاركة بصفة شخصيّة

يريد كثيرون من الغيوريّن على قضايا المرأة، أن يكون الأساس هو تصويب السّياسات الوطنيّة تجاه قضاياها، بطريقةٍ يكون فيه صانعو القرار مستعدّين لإيجاد الحلول المناسبة للقضايا العالقة. أمّا في ما يتعلّق بالحراك الشعبيّ، فإنّ المسألة تحتمل وجهتيّ نظر بحسب ما تؤكّده أبرز الناشطات النسويّات ليندا مطر. فرئيسة لجنة حقوق المرأة تعدّ أنّ قضية المرأة تتعلّق بوطنٍ حرّ، «فإذا غاب هذا الوطن لن يكون هناك حريّة لأحد»، معلّلةً الأسباب التي غيّبت قضية المرأة عن التحرّكات المدنيّة الأخيرة بأنّ «الجميع كانوا أمام قضية أكبر من المفترض أن تقرّر مصير شعبٍ بأكمله».
ومع انطلاق الحِراك المدنيّ، كان لقاءٌ شاملٌ جمع مطر مع مجموعة من الناشطات النسويّات وناشطاتٍ في لجنة حقوق المرأة، طرحت أثناءه موضوع التوصّل إلى مشاركةٍ مباشرةٍ من الجمعيّات في مختلف التظاهرات، لإبراز قضايا المرأة. فكانت الخلاصة تأييد الحراك بعامّة، من دون التوصل إلى صيغةٍ تضمن نزولهنّ إلى الأرض لتمثيل جمعيّاتهن. وتشرح مطر ما حصل: «تحدّثت السّيدات عن رأيهنّ بالتطوّرات الحاصلة، مع تأكيدهنّ بعض المآخذ السّلبيّة، خصوصاً تلك المتعلّقة بأعمال الشغب التي رافقت معظم التظاهرات. بالنسبة إليّ أردت أن تُشارك النساء بقوّة، وأن يطرحن شعاراتهنّ في قلب الحِراك، ولكنّ المخاوف التي تحدّثت عنها الناشطات حالت دون ذلك، وبالتالي لم يكن أمامنا سوى القرارات الشخصيّة، أيْ أنّ السّيدات شاركنَ بصفةٍ شخصيّة». وإذْ تعتبر مطر أنّ الحِراك تحوّل عن أهدافه الرئيسة في كثيرٍ من المرّات، إلاّ أنّها ترى أنّ توصّله إلى الأهداف المنشودة سيشمل الجميع في نهاية المطاف. وتختم حديثها بالقول «كان هناك تخوّف من ارتدادات الشارع، ولكنْ لو شاركت المرأة بقوّة لكانت هي التي ستخوّف الجميع».

الحلّ ليس بالتخريب

تخوّفٌ لا تُخفيه بل تؤكّده رئيسة رابطة المرأة العاملة في لبنان وشبكة حقوق الأسرة إقبال دوغان: «مع كلّ احترامنا للتحرّك، وأملنا بأنْ يجد نتيجة، إلاّ أنّنا نخاف عليه، على غرار ما حصل في الدول العربية، وخصوصاً بسبب غياب القيادات وتشعّب القضية. ومثلما يهمّنا أن يصل صوتنا اعتراضاً، يهمّنا أيضاً أن نؤكّد ضرورة الحفاظ على الدولة بمؤسّساتها، فالدولة هي الأرض والشعب والحكم». لهذه الاسباب تؤكّد دوغان غياب معظم الجمعيّات النسائيّة عن التحرّكات، موضحةً: «كَوني عضواً في المجلس النسائيّ، فإنّ الأخير كان في صدد المشاركة ولكنّ التطوّرات السّلبيّة مَنَعَت ذلك. شخصيّاً لم أشارك ولن أفعل، وكلّ تخوفّي هو على الشبّان المتحمّسين، الّذين أقول لهم إنّنا لا نقبل أنّ يكون الحلّ بالتخريب». وتُضيف: «إنّ المنظّمين لم يدعونا أساساً إلى المشاركة معهم، وكأنّهم لا يريدون مشاركةً من أيٍّ من المناضلين السّابقين!».
أخيراً، تُبدي دوغان عَتَبها على المشاركات اللّواتي شاركنَ ولم يحملنَ شعاراً له علاقة بأيٍّ من القضايا النسائيّة، «ألا نعتب على هؤلاء؟! لقد كان من المُفترض أن يصرخن بأعلى أصواتهنّ للمطالبة بحقوقهنّ».

يجب عدم السّكوت

كون السّاحات المطلبيّة تتّسع للجميع، فقد كان هناك مُشاركة لعددٍ من الجمعيّات النسائيّة في الحِراك المدنيّ، من أبرزها «التجمّع النسائيّ الديموقراطي»، الذي استبق مشاركته ببيانٍ أكّد فيه تأييد الحِراك، مؤكّداً  عدم انفصال النضال النسويّ عن النضال الديموقراطيّ.
مشاركةٌ فاعلةٌ يُقابلها الكثير من الملاحظات على الجندريّة المتحكّمة بقلب الحكم، تتحدّث عنها الناشطة في التجمّع حياة مرشاد، مشيرةً إلى أنّ النساء لطالما كنّ موجودات وقضاياهنّ حاضرة، إلاّ أنّه في لحظات القرارات المصيريّة تبقى تلك القضايا دون الاولويّات، ويُنسف وجود المرأة عن أيّ مراكز سلطويّة أو ذات شأنٍ مؤثّر. وتقول مرشاد: «هناك تهميشٌ دائم للمرأة، وقد سلّطنا الضوء مراراً على ذلك، ووجدنا آذاناً صاغيةً، فأخيراً كانت النساء هنّ مَن يتلونَ البيانات وكنّ في الصفوف الأماميّة التنظيميّة».
ولفتت مرشاد إلى أنّ التجمّع كان قد عقد اجتماعاً تم التوصّل على إثره إلى موقفٍ مشتركٍ يقتضي بضرورة المشاركة، إذْ يجب عدم السّكوت. وحملت المُشاركات من التجمّع لافتاتٍ عبّرنَ فيها عن مطالبهنّ، وأبرزها الكوتا النسائيّة، والمشاركة السّياسيّة الفاعلة للنساء، والمطالبة بإقرار قانونٍ انتخابيٍّ يوفّر تمثيل جميع الفئات، بالإضافة إلى قانون الجنسيّة وشعارات عامّة تتعلّق بالنظام الطائفيّ الذكوريّ. وتختم مرشاد حديثها بتجديد الدعوة إلى «النزول إلى الشارع» وخصوصاً المنظّمات النسويّة، على الرغم من تفهّم تحفّظاتها التي تحول دون مشاركتها.

معنيّون في المشاركة

ومن بين الجمعيّات المُشاركة أيضاً في الحراك، حملة «جنسيّتي حقٌّ لي ولأسرتي»، التي أكدّت دعمها لكلّ تحرّكٍ مدنيٍّ على الأرض، بالرغم من تحفّظها عن بعض المُمارسات. كريمة شبّو مسؤولة الوحدة القانونيّة في الحملة، تقول: «كلّ المطالب المحقّة يُمكن أن تأتي مجتمعةً. ولأنّ حقوقنا تأتي على خطٍّ متوازٍ مع الحِراك شاركنا فيه. فالتحرّك كان شعبيّاً بحتاً، لذا كنّا معنيّين في المشاركة على الأرض لا في التنظيم».
وكانت الحملة قد أصدرت بياناً دعت فيه كلّ الأطراف الحريصة على المواطنة، إلى المطالبة بالمساواة بين النساء والرجال، وبناء الدولة المدنيّة العادلة، وإدراج مطلب النساء اللّبنانيّات في منح الجنسيّة لأسرهنّ ضمن المطالب المدنيّة والشعبيّة الأخرى، وإلى رفض أيّ مشروعِ قانونٍ لا يُحقّق المساواة القانونيّة الكاملة بين اللّبنانيّين واللّبنانيّات في مجال مَنح الجنسيّة أو استردادها، خصوصاً أن ذلك المطلب هو ركيزةً أساسيّةً على طريق بناء دولة المواطنة المدنيّة.
وتختم شبّو بالقول: «نزلنا إلى الشارع وحملنا شعارات أساسيّة تطالب بالحقوق المدنيّة والمواطنة، ورصدنا بعض الحالات لسيّداتٍ رفعنَ مطالبهنّ الخاصّة كنساء، ما يعني أن قضية المرأة لم تكن مغيّبة تماماً».

التحرّك للجميع

وماذا عن الجمعيّات التي تُعنى بقضايا المساواة بين الجنسيْن، وتلك التي اتّخذت على عاتقها محاربة العُنف ضدّ النساء؟ لماذا لم تشارك في الحراك، كـ «أبعاد» ؟!
رئيسته غيدا عناني ترى أنّ الهدفَ الأساسيّ من الحِراك معيشيٌّ، «من هذا المنطلق، نحن نرفض المتاجرة بالمواسم والمزايدة بأسماء الجمعيّات المشاركة، وإلاّ فسنكون أمام ضياعٍ للمطالب الأساسيّة».
ولكن هل يُعدّ  ذلك مبرّراً لتغييب مطالب المرأة عن الحِراك؟ تُجيب عناني: «هذا ما نعدّه تصرّفاً صحيّاً، فعندما يكون كلّ من الرجل والمرأة واقفاً في حراكٍ مشتركٍ، لا يُفترض أن ترفع المرأة قضاياها، لأنّنا نتحدّث عن شموليّةٍ لحقوق الإنسان، وفي حال العكس فإنّنا نُعزّز فكرة التمييز  بين  الجنسيْن، وكأنّها شراكة انتهازيّة». وتوضح عناني قائلةً: «هذه القضايا تشمل الجميع، ويجب ألاّ ننتظر تحرّكاً شعبيّاً لتُشارك النساء ويُطالبن بحقوقهنّ، فمن نزل إلى الشارع شارك من أجل مطالبٍ وأهدافٍ معروفة. وأؤكّد أنّ نساءً كثيراتٍ من قلب «أبعاد» شَاركنَ في التحرّك ولكن بصفةٍ شخصيّة».

في الصفوف الأماميّة

من منظارٍ إيجابيٍّ تخرج جمعيّة «كفى عنف واستغلال» لتُقارب موضوع الخِلاف من وجهة نظرها الخاصّة، فتتحدّث المنسّقة فاتن أبو شقرا لتقول إنّ المواضيع الرئيسيّة التي طُرحت وأبرزها المُحاسبة، تأتي على صعيدٍ متوازٍ مع عمل الجمعية الذي يركّز على ضرورة محاسبة السّياسيّين، انطلاقاً من قضايا الكهرباء والمياه والنفايات. وتقول: «شاركنا بصفةٍ شخصيّة وسنبقى موجودات. ونشجّع المرأة على أن تكون في الصفوف الأماميّة، لأهميّة دور المرأة التي تبلور على مرّ السّنين، وانطلاقاً من حتميّة تغيير النظام الطائفيّ السّياسيّ الذكوريّ، ولا شكّ في أنّ ذلك سيؤثّر إيجاباً في قضايا النساء».

الحِراك للجميع

إذاً، لم يكن الهدف من الحِراك فصل حقوق المرأة عن القضايا المطلبيّة الأساسيّة، على الرغم من وجود حالةٍ عامّةٍ لم تُفلح في تطوير الخطاب الرسميّ حول قضايا المرأة بإقرار سياساتٍ واستراتيجيّاتٍ وخططٍ يُمكن الارتكاز عليها لمقاربة قضايا المرأة. فماذا تقول الناشطات في حملتَي «طلعت ريحتكم» و«بدنا نحاسب»؟.
من «بدنا نحاسب» تؤكّد  الناشطة نعمت بدر الدين أنّه لا يُمكن القول إنّ قضايا المرأة كانت غائبة عن الحِراك، «فلم نتحرّك لنتحدّث عن امرأة ورجل بل عن دستور وقانون انتخابيّ وموضوع مكافحة الفساد ومحاربة المسؤولين وأزمة النفايات والبطالة، وهذه قضايا تخصّ الجميع». وتتابع: «حتّى العُنف لا يُمكن حصره بالمرأة، فالرجال أيضاً تعرّضوا إلى ممارساتٍ عنفيّة، وما نطرحه يرتبط بقانونٍ انتخابيٍّ خارج القيد الطائفيّ على نحوٍ يسمح بإعطاء الفرصة لشرائح المجتمع للمطالبة بحقوق المرأة والجنسيّة وإيقاف العُنف والزواج المدنيّ». انطلاقاً من هذه القوانين الكبيرة، سيكون المدخل إلى التغيير بحسب بدر الدين: «فنحن نعمل من أجل الوعي حول الحقوق والواجبات وهو المطلب الأساس الذي تنطلق منه كلّ المطالبات الأخرى، وهذا ما سيؤدّي إلى الضغط بواسطة الشارع من أجل التأسيس لدولةٍ جديدةٍ يكون لقضايا المرأة فيها أولويّة».

من أجل حقٍّ شامل

الناشطة  نادين جوني من حملة «طلعت ريحتكم» تُؤكّد الدور المحوريّ لعددٍ من الجمعيّات النسائيّة التي شاركت. وحول الدور المنوط بالحملة تجاه المرأة، تقول جوني: «نزلنا إلى الشارع من أجل مطلبٍ محدّدٍ تمثّلَ بدايةً في المطالبة بحلولٍ لأزمة النفايات، لكن سرعان ما كبُرت سلّة المطالب. من هنا يبدأ التغيير للوصول إلى شموليّةٍ في المطالب، انطلاقاً من قانونٍ انتخابيٍّ يُمثّل جميع الفئات» . وهي ترفض الأصوات التي تتحدّث عن تغييب قضايا المرأة، إذْ تعدّ أنّ الإطار الأبرز للتحرّكات ينطلق من انتفاضةٍ اقتصاديّةٍ على الواقع الراهن، «فبتلك المطالب يُمكن الارتقاء عن الحسابات الجندريّة من أجل حقٍّ شامل للجميع. لذلك، إنّ طرح قضايا المرأة حاليّاً قد لا يؤدّي إلى نتيجة، بل إلى تشتيت المطالب وهو ما لن يخدم الحِراك.

مقالات قد تثير اهتمامك