تأخّر سنّ الزواج في لبنان: خيار شخصيّ أو قسريّ؟

في رسمٍ إنفوغرافيكيّ نشرته في نهاية العام المنصرم «قناة روسيا اليوم» على موقعها الإلكترونيّ حول تأخّر سنّ الزّواج في الوطن العربيّ، احتلّ لبنان المرتبة الأولى، حيث تصل نسبة «عنوسة» الفتيات فيه إلى 85%!

هذه النّسبة ليست جديدة، ففي أواخر العام 2013 أظهرت دراسةٌ أجرتها إذاعة هولندا العالميّة النّسبة نفسها بالاستناد إلى إحصاءات مراكز الأبحاث ومعطياتٍ خاصّةٍ بمنظّماتٍ غير حكوميّة.  

في الواقع، لا تُعدّ هذه النّسبة «مفاجأةً» للبنانيّين نظراً إلى الوضع الاقتصاديّ المتردّي، وغلاء المعيشة، وطبعاً ارتفاع نسبة البطالة والهجرة، إضافة إلى رغبة الفتاة نفسها في تأجيل موضوع الزّواج إلى ما بعد انتهائها من الدّراسة الجامعيّة ثمّ دخولها سوق العمل بحثاً عن استقلاليّتها المادّيّة.

«الحسناء» تسلّط الضّوء في هذا التّحقيق، على الأسباب الحقيقيّة لتأخّر سنّ الزّواج، بإجراء مقابلاتٍ مع معنيّين في الشّأنَين الاقتصاديّ والاجتماعيّ، إضافة إلى نشر أرقامٍ جديدةٍ حول المعدّلات العامّة لتأخّر سنّ الزّواج، تتناقض مع ما ورد في تقريرَي «روسيا اليوم» و«إذاعة هولندا العالميّة».

نِسبٌ متناقضة

نبدأ من الدّراسة التي كانت قد نشرتها «إذاعة هولندا العالميّة» والتي قد تكون «روسيا اليوم» قد استندت إليها. في الواقع، إنّ الإذاعة جمعت ما توفّر لها من إحصائيّاتٍ لدى مراكز الأبحاث ثمّ قامت بدراستها ومقارنتها، مٌشيرةً إلى أنّ النِّسب التي أظهرتها الدّراسة، مُرشّحةٌ للارتفاع بفعل تغيّر البنية الاجتماعيّة والأزمة الاقتصاديّة التي تعيشها المنطقة.

انطلاقاً ممّا تقدّم، يُمكن الاستنتاج أنّ النّسب التي توصّلت إليها الإذاعة غير دقيقة، لأنّها لم تعتمد في دراستها على أرقامٍ دقيقةٍ، ولم تذكر المعايير والعيّنات التي اعتمدتها كمؤشّر. لذا، توجّهنا إلى «المؤسّسة الدّوليّة للمعلومات»، وهي مؤسّسةٌ تُعنى بتقديم أرقامٍ دقيقةٍ في ظلّ غياب الإحصائيّات الرّسميّة. وفق هذه المؤسّسة، تُسجّل نسبة «العزوبيّة» لدى الفتيات في لبنان من عمر 19 عاماً إلى 45 عاماً، 52%، وترتفع لدى الذّكور في الشّريحة العمريّة نفسها إلى 62%. وبحسب أحد مراكز الإحصاء غير الرّسميّة، فإنّ نسبة «العنوسة» هي 56%، وتتوزّع هذه النّسبة على الشّكل الآتي: 95% للذّكور بين عمر الـ 20 إلى الـ 24، و73% للإناث في الفئة العمريّة نفسها، وتتقارب النّسبة بين 35 عاماً و 39،  لتزيد النّسبة بعد عمر الأربعين.

في الأبعاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة المرتبطة بتأخّر سنّ الزّواج نفّند التالي:

ارتفاع أسعار العقارات: أوّل العقبات

يُعدّ غلاء المعيشة السّبب الأبرز لارتفاع معدّل «العنوسة» في لبنان، بحيث أصبح توفير المسكن هاجساً في ظلّ ارتفاع أسعار الشّقق والعقارات. الخبير الاقتصاديّ البروفيسور جاسم عجاقة يورد في مقابلةٍ خاصّةٍ مع «الحسناء»، بعض أهمّ أسباب تأخّر سنّ الزواج كهجرة الشّباب إلى الخارج والأزمة الاقتصاديّة والبطالة. ويتحدّث البروفيسور عجاقة عن أولى العقبات التي تواجه المُقدمين على الزّواج أو الرّاغبين فيه، وهي المنزل، شراءً واستئجاراً، فيوضح «هناك إشكاليّةٌ حقيقيّةٌ تتعلّق بارتفاع أسعار الإيجارات، وتكاد تصل إلى أكثر من نصف الرّاتب الشّهريّ للموظّف. وإذا أردنا عدّ فئات الأشخاص الذين يتزوّجون، فنذكر فئة شباب القرى النّائية الذين يتزوجون ويسكنون مع أهاليهم، وفئة ذوي الدّخل المرتفع وهم أقلّيّة، وفئة المهاجرين اللّبنانيّين». وفي ما يتعلّق بأسعار العقارات، يتحدّث عجاقة عن إشكاليّةٍ تتعلّق بالمدى الزّمنيّ الذي يتوجّب فيه على المستدين سداد سندات قرض الإسكان. فالمستدين يتحمّل أكثر من 30 عاماً عبء تسديد أقساط شقّةٍ أقلّ من عاديّة». وفي هذا الإطار، يُمكن الإشارة إلى التّفاوت في أسعار الشّقق باختلاف المناطق اللّبنانيّة، فيُمكن شراء منزلٍ بسعر 100 ألف دولار، في وقتٍ يصل سعر المتر الواحد في مناطقَ معيّنةٍ من لبنان إلى أكثر من 60 ألف دولارx!

بطالة ونزوح والأزمة إلى تفاقم

تبقى البطالة من أبرز الأسباب التي تمنع الشّابّ من الإقدام على خطوة الزّواج، وبحسب البروفيسور عجاقة فقد ازدادت نسبة البطالة مع استمرار النّزوح السّوريّ بنسبةٍ تخطّت الـ 35% من النّسب الأساسيّة. ويوضح أنّ «ذلك يأتي على صعيدٍ متّصلٍ بهجرة الشّباب التي ارتفعت معدّلاتها أيضاً وصرنا نتحدث عن 13 ألف شابٍّ مهاجرٍ إلى 15 ألفاً سنويّاً وهؤلاء معظمهم من فئة الشّباب، وللأسف الأزمة إلى تفاقم».

أمام هذا الواقع، هل يمكن الحديث عن حلول. يُجيب عجاقة: «الحلول بأيدي السّياسيّين، على أن يبدأ ذلك أوّلاً بوضع خطّةٍ اقتصاديّةٍ لإعادة ترسيخ اللّبنانيّين في أرضهم، ودون ذلك لن يكون هناك حلّ. لذا يجب على الحكومة ان تُنعش هيكلة الاقتصاد، وبخاصّةٍ في القطاعات التي يمكن استثمارها بطريقةٍ تعود بمردودٍ على جميع العاملين فيها مثل الصّناعات التّحويليّة والزّراعيّة والمجالات التّقنيّة». ويتابع: «قبل الحديث عن كلّ الحلول المذكورة آنفاً، يُفترض العمل على إطارٍ قانونيٍّ يُنظّم هذه المسألة، ونذكر على سبيل المثال وضع كوتا على اليد العاملة الأجنبيّة، بالإضافة إلى التّوجّه نحو الاستثمار والعمل وفق الأطر القانونيّة المناسبة التي توفّر توزيع الحصص بعدل». إلاّ أنّ عجاقة لا يُبدي تفاؤلاً على هذا الصّعيد، مؤكّداً أنّ الاستمرار في السّياسات الاقتصاديّة الحاليّة يعني حكماً تأزّم الوضع الاجتماعيّ.

نظرة المجتمع إلى «العنوسة»

من الأسباب الاقتصاديّة ننتقل إلى الأسباب الاجتماعيّة التي تؤثّر سلباً في البيئة الاجتماعيّة. نناقش هذه المسألة مع الباحثة الاجتماعيّة تمام مروّة. نسألها: كيف ينظر المجتمع إلى مَن التصقت به صفة «العنوسة»؟ فتُجيب: «إنّ تأثير المسألة في الفتاة تحديداً يرتبط بمدى أهليّة الفتاة لكي تكون مستقلّة. بمعنًى آخر، هناك مجتمعاتٌ يبدأ فيها الأهل بتجهيز بناتهم من عمر 13 سنةً للزّواج، وعندما يصل عمر الفتاة إلى 25 سنةً وهي لا تزال عَزبة، تشعر بإحساس بالنّقص وكأنّ الحياة انتهت عند هذا العمر. وبذلك فإنّ المسألة ترتبط أوّلاً باختلاف الثّقافات في المجتمع».

تتابع مروة: «في الوقت نفسه، إنّ معظم الفتيات أصبحن متعلّماتٍ ودخلن إلى سوق العمل، ما جعل الضّغط الاجتماعيّ على هؤلاء الفتيات أقلّ مقارنةً بالسّابق، فصارت الفتاة تتقبّل كلّ أنواع النّقد التي قد تطالها في ما يتعلّق بموضوع «العنوسة».

من بيده الحلّ؟

وهل يمكن القول إنّ تأخّر سنّ الزّواج أصبح بيد المرأة؟ تقول مروة: «لم تعد الأسباب الاقتصاديّة سبباً رئيساً، فاليوم أمام الفتاة خياراتٌ أكثر من الدّخول باكراً في معترك المؤسّسة الزّوجيّة، خلافاً لكلّ الذي يحاول الجميع التّركيز عليه في شأن موضوع الإنجاب الذي قد تتراجع نسبته كلّما تقدّمت المرأة في السّنّ. على أنّ ذلك لا ينفي أنّ هناك فتياتٍ كثيراتٍ لا يزلن ينتظرن «العريس»، حتّى لو كنّ عاملاتٍ ومنتجاتٍ في المجتمع، وذلك يرتبط حكماً باختلاف الثّقافات والتّربية». وتعليقاً على الرّسم الإنفوغرافيكيّ الذي نشرته «روسيا اليوم» وقبله الدّراسة التي أجرتها إذاعة هولندا العالميّة، تقول مروة: «يُفترض أوّلاً تعريف مفهوم «العنوسة»، وأصلاً نحن لا نثق بتلك الدّراسات التي غالباً ما تكون ذات طابعٍ تجاريّ. أمّا الأسوأ فمحاولتها إظهار المرأة على أنّها لم تعد منتجةً وغير مرغوبٍ فيها!». هنا تُفتح إشكاليّة كيفيّة استخدام كلمة «عانس» إذْ يتمّ استخدام كلماتٍ أو عباراتٍ لا تقلّ أذيّةً وإحراجاً، فكلمة «يا حرام ما تزوجت بعد» مثلاً تؤثّر سلباً في نفسيّة الفتاة، ومَن يطلق هذه الجملة لا يُفكّر في أنّ الفتاة قد لا ترغب في الزّواج. يُضاف إلى ذلك تأثّر الرّجل سلبياً أيضاً، فهناك نظرةٌ سلبيّةٌ للمجتمع تجاه الرّجل المتقدّم في العمر وغير المتزوّج، وقد يُظلم الرّجل في ذلك أكثر من الفتاة، وأحياناً يواجه هو ضغطاً يفوق حجم الضّغط على الفتاة».

شروطٌ تعجيزيّةٌ إذاً، ومجموعةٌ من العوامل الاقتصاديّة الصّعبة التي تبقى حائلاً دون زواج جيل الشّباب. ولعل نِسب تأخّر سنّ الزّواج سترتفع أكثر في ظلّ أوضاعٍ اقتصاديّةٍ متردّية. فمن بيده مفتاح الحلّ؟

مقالات قد تثير اهتمامك