التحرّش الجنسيّ: ضحايا يخافون كسر حاجز الخوف!

التحرّش الجنسيّ: ضحايا يخافون كسر حاجز الخوف!

ربّما لا يزال البعض يتذكّر اللّوحة الإعلانيّة لفيلم "التحرّش" (Disclosure) لـ باري ليفنسون في العام 1994 الذي تظهر فيه الممثّلة ديمي مور مع الممثّل مايكل دوغلاس وهي ترواده عن نفسها، وبعد عدم استجابة مديرها في العمل لإيحاءاتها الجنسيّة، تقوم الشخصيّة التي تمثلها مور باتّهامه بإغتصابها.

هذا الفيلم عُرض في صالات السينما المُظلمة في فترةٍ كان الغرب بدأ يُلقي الضوء على مشكلة التحرّش الجنسيّ ويتّخذ إجراءات قانونيّة صارمة لوضع حدٍّ له، إذ قام المُشرّع الفرنسيّ مثلاً في العام 1992 بإعتبار التحرّش الجنسيّ جريمة يُعاقب عليها قانون العقوبات. 

صعوبة إثبات الفعل

وبعد إجراء العديد من التعديلات على هذا القانون على مرّ السّنين، تغيّر النصّ الذي كان في نسخته الأولى يُركّز بشكلٍ شبه حصريّ على التحرّش الجنسيّ في مكان العمل أو في إطار مزاولة العمل، ليُصبح أكثر شموليّة ونصّت على الآتي: "التحرّش الجنسيّ هو قيام شخص بفرض سلوك أو استخدام عبارات ذات طابعٍ جنسيّ مع شخصٍ آخر وبشكلٍ متكرّر ومُهين ينتهك كرامة الآخر أو يُسبّب له الإحراج أو يولّد حالة عدائيّة أو هجوميّة بين الطرفيْن".

التحرش الجنسيّ هو أيضاً كلّ فعلٍ يُمارس أيّ شكل من أشكال الضغط الشديد،  حتّى غير المُتكرّر، بهدف الوصول إلى ممارسة فعلٍ ذي طابعٍ جنسيّ لصالح الجاني أو أيّ طرف ثالث".

وتصل العقوبة القصوى بموجب هذا القانون إلى السّجن مدّة عاميْن وغرامة قدرها 30 ألف يورو! ويتمّ تشديد العقوبة بخاصّةٍ بالنسبة إلى الّذين يستغلّون نفوذهم في إطار مراكز العمل للوصول إلى مآربهم "الوسِخة". لكن تكمُن الصعوبة الرئيسية بالنسبة إلى الضحايا في إثبات الفعل، ولاسيّما أنّ هذه المضايقات تتمّ عادةً في الخَفَاء، ولذلك غالباً يلجأ القُضاة إلى ما يسمّيه المحامون "الأدلة المتطابقة".

"أقسمت ألاّ أدعه يقوم بذلك مجدّداً"

إذا تناولنا الموضوع  ضمن إطار مراكز العمل، ولاسيّما أنّه يُعتبر البيئة الأساسيّة التي يتمّ فيها ارتكاب جرائم التحرّش الجنسيّ، لوجدنا أنّ أفعال التحرّش الجنسيّ متعدّدة  وتتخذ أشكالاً مختلفة.

ففي حين يعتبر القانون الأميركيّ مثلاً أن الربت على كتف عاملة الصندوق في السّوبر ماركت جريمة كلّفت صاحب العمل غرامة ماليّة قُدّرت بمليون دولار، فإنّ العبارات أو التصرّفات المُتكرّرة  ذات الطابع الجنسيّ أو السّلوك الفاحش أو الرسائل الإلكترونيّة ذات المضمون الجنسيّ أو طلب ممارسة الجنس مباشرةً مقابل التقدّم الوظيفيّ وغيرها، تقع من دون أدنى شكّ تحت مظلّة التحرّش الجنسيّ.

في هذا الإطار تروي لنا جمانة (28 عاماً) موظفة في بنك، تجربتها الخاصة: "خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الفترة التجريبيّة في الوظيفة، كان المُشرف المسؤول يطلب رؤيتي في مكتبه بشكلٍ متكرّر زاعماً أنّه يقوم بجلسات تقييم لأدائي في العمل. لكنْ في الواقع، كان يُراقب ساقيّ وصدري حتّى أنه ربت مرّةً على فخذي قائلاً إنّه سيُساعدني على تسلّق سلّم النجاح بسرعةٍ إذا كنت "فتاة مطيعة". فغادرت من دون التفوّه بكلمة واحدة، لكنّني أقسمت ألاّ أدعه يقوم بذلك مجدّداً. في المرّة التالية، وقبل الدخول إلى مكتبه، شغّلتُ خدمة "التسجيل الصوتيّ" في هاتفي المحمول وسجّلتُ كلّ حديثه الذي كان واضحاً ومباشراً. ثمّ وقفت وهدّدته بإرسال التسجيل الصوتيّ إلى إدارة البنك، ومنذ ذلك الحين، لم يقم بمضايقتي مُجدّداً".

إنّ موقف جُمانة الشجاع ليس شائعاً للأسف. ففي معظم الأحيان يختار الضحايا التزام الصمت ويشعرون بعارٍ كبيرٍ وبالفضيحة، فلا يكسرون حاجز الخوف ويستسلمون للأمر الواقع. وفي دولٍ مثل لبنان، تتكرّر هذه الحالات للأسف لأنّ القانون الذي يرعى حقوق ضحايا التحرّش الجنسيّ يبقى مجزأً ومنقوصاً.

الرجال ضحايا أيضاً

 لكي نُعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه، يجب الاعتراف أنّ الرجال أيضاً قد يقعون ضحيّة التحرّش الجنسيّ، ولو كان هذا السيناريو نادراً جدّاً. فـ جاد (32 عاماً) يروي لنا تجربته خلال رحلة عملٍ قام بها مع الموظّفة المُشرفة عليه: "بدأت القصة في مقصورة درجة رجال الأعمال في الطائرة التي كانت تقلّنا من بيروت إلى دبي حيث تمتلك شركتنا فرعاً إقليميّاً. فراحت مديرتي، وهي امرأة جذّابة في الأربعين من العمر، تغدق عليّ المديح وتُثني على مظهري ولباسي وأظافري المقلّمة إلخ... عليّ الاعتراف أنّني شعرت بالإطراء في بداية الأمر، ثمّ أخذت الأمور منحًى آخر غير مستحبّ على الإطلاق. فبعد يوميْن، أيْ مساء الخميس عشيّة نهاية الأسبوع في دبي، ذهب فريق العمل للاحتفال في الملهى اللّيليّ نهاية أسبوعِ عملٍ شاقّ في مجمع "مدينة جميرا". وعند عودتنا إلى الفندق، بعد احتساء النبيذ مدّة ساعات، تقدّمت نحوي في المصعد وعرضت عليّ قضاء اللّيلة برفقتها. فأبعدتها عنّي وقلتُ لها إنّني رجل متزوّج، وأحبّ زوجتي ولن أقوم بخيانتها... فقامت بتهديدي بعواقب وخيمة إذا لم أرضخ لرغبتها. بقيتُ هادئاً، وتمكّنت من إنقاذ الموقف عندما ذكّرتها أنّنا زميلان في شركة بريطانيّة ويجب ألا نتمازح في أمورٍ مماثلة".

حلول في ظلّ غياب التشريعات الرادعة

دعم عمل الجمعيّات والمبادرات الخاصّة الفرديّة أو الجماعيّة (الشركات التي تُبادر إلى وضع قواعد صارمة حول كيفيّة التصرّف في نظامها الداخليّ ودليل الموظّفين) والحركات النسائيّة والمظاهرات والعرائض المندّدة بالتحرّش الجنسيّ... كلّها مبادرات تكاثرت في السنوات والأشهر الأخيرة للتنديد بالتحرّش الجنسيّ ومواجهته من خلال عمل المؤسّسات العامّة. وكما جرت العادة في لبنان، إنّ المجتمع المدنيّ هو الذي يأخذ زمام المبادرة للتعويض عن تقصير الدولة في القضايا التي تهمّ المجتمع.

ولا بدّ هنا من التوقّف عند قصص نجاح هامّة شاهدناها في الآونة الأخيرة كالـ "المسيرات السلميّة" التي دعت إليها الجمعيّات من أجل تنبيه السّلطات إلى وجود حاجة ملّحة لاعتماد التشريعات المناسبة في مواجهة التحرّش الجنسيّ. ومن هذه الجمعيّات الشجاعة، جمعية "نسويّة" التي أطلقت مبادرة "مغامرات سلوى" (www.adventuresofsalwa.com)، وهي شخصيّة كرتونية تصوّر مواقف التحرّش الجنسيّ في حياتنا اليوميّة. 

وعلى الرغم من مواردها المحدودة،  تقوم هذه الجمعيّة بواسطة المبادرات التعبويّة وحلقات النقاش وحملات التوعية في المدارس والجامعات والشركات، بالإضاءة على هذه الآفّة الاجتماعيّة وإيجاد الحلول لها. من هنا، تحيّة إكبار لجهود هذه الجمعيّة وغيرها من الجمعيّات الأهليّة التي لا تألو جُهداً في سبيل الوصول إلى إجراءاتٍ قانونيّةٍ سريعةٍ تحمي الضحايا وتحدّ من تفشّي هذه الظاهرة بكلّ أشكالها ودرجاتها.

أخيراً، إنّ أفضل نصيحة للضحايا هي كسر حاجز الصمت... فلا بدّ أن يأتيَ فجرٌ جديدٌ كلّه أمل بمستقبلٍ عادلٍ ومُشرقٍ يضع حدّاً للظالم وينصف المظلوم.

 

 

 

مقالات قد تثير اهتمامك