التحوّل الجنسيّ في بلادنا: رحلة مشقّات طويلة
التحوّل الجنسيّ في بلادنا: رحلة مشقّات طويلة
التحوّل الجنسيّ في بلادنا: رحلة مشقّات طويلة

التحوّل الجنسيّ في بلادنا: رحلة مشقّات طويلة

يُسبّب موضوع التحوّل الجنسيّ في لبنان كثير من الجدل. فهل يُمكن اعتباره ظاهرة في ثقافتنا تعني الانتقال من جنسٍ إلى آخر إلى جانب التدخّل الجراحي المتقدّم والهرموني المُكثّف في الجسم فيُصبح واقعاً ملموساً؟ أم أنّ هناك تصنيفاً مُرضياً حقيقيّاً لهذه الظاهرة؟

تختلف الآراء حول هذا الموضوع. فرجال الدين يتدارسون المسألة في حين يضع رجال القانون الحواجز والعقبات، أمّا "الحسناء" فتحقّق وتنشر.

المغضوب عليهم... المنبوذون

أنطوانيت (التي كانت في ما مضى أنطوان - 33 عاماً) : "ممّ يُعاني المتحوّلون جنسيّاً؟! من حُكُم الناس المُسبق، والخوف الدائم من ردّة فعل الأهل وتخلّيهم عنهم. لكنّ المعاناة الأكبر هي الخشية من عدم تقبّل الآخرين لحقيقة مشاعرهم المُختلفة عن القواعد والنُظُم السائدة".

يكتسب التحوّل الجنسيّ معاني كثيرة: فبالنسبة إلى بعض المحلّلين النفسيّين هو حصن ضدّ المثليّة الجنسيّة، أو ضدّ الانحراف الجنسيّ بالنسبة إلى آخرين، أو الاضطراب الذهنيّ بنظر مدرسة "Lacan"، أو الاضطراب في الهويّة الجنسيّة بالنسبة إلى Stroller، أو الانزعاج من الهويّة الجنسية بالنسبة إلى Fisk... غير أنّه من الواضح أنّ متلازمة التحوّل الجنسيّ (أو متلازمة بنيامين Benjamin) أو التحول الهرموني -الجراحي هما أمران لا يجمع عليهما الخبراء البتّة.
في الوقت نفسه، نشهد محاولات كثيرة في وسائل الإعلام لتناول هذه المسألة، لكنّ غالبيّة هذه الوسائل للأسف الشديد تهدف إلى إحراز صدمة لدى المشاهدين وليس توصيل المعلومات الصحيحة إليهم. وغالباً ما يترافق مصطلح "التحوّل الجنسيّ" مع حالات سوء الفهم أو معانٍ مضادّة له تُسبّب ضرراً نفسيّاً أكيداً للمتحوّلين جنسيّاً أنفسهم. أمّا المتخصّصون فلا يعترفون بعدم قدرتهم على تحديد هذا المفهوم  بشكلٍ كامل على الرغم من استمرار الغموض حول أصل هذه الظاهرة؛  وبدلاً من ذلك، يميلون إلى حلّ التغيير الجنسيّ النهائيّ لوضع حدٍّ للمآسي التي يفرضها التحوّل الجنسيّ. وهكذا، يبقى المتحوّلون جنسيّاً في لبنان في مهبّ الغموض وجهل الآخرين بوضعهم. وإذا لم ينظر إليهم المجتمع كمخلوقات وحشيّة غريبة ويعمد إلى نبذهم وإبعادهم، يكون لهم الجسم الطبي بالمرصاد بحيث لا يستخدم تقنيّاته بشكلٍ صحيح ليُلبي حاجاتهم العلاجيّة المناسبة.

رحلة محفوفة بالصعاب منذ الطفولة

" يقول إيلي (كان اسمه في ما مضى إليان - 44 عاماً): منذ الطفولة شعرتُ بأنني مختلف عن الآخرين بشكلٍ كبير. لطالما عرفتُ بأنني صبيّ على الرغم من  ضفائر شعري الطويلة. كنتُ أتمنّى حتّى بلغت الـ 14 عاماً أن أتحوّل إلى صبيّ بين ليلةٍ وضحاها. أكثر ما كان يصدمني هي القواعد التي وضعتُها لنفسي لأهرب من مشكلتي". ويتابع: "لم أثق يوماً بأحد لأبوح له بسرّي، لذلك قرّرت أن أتأقلم مع جسمي فرحتُ أرتدي ملابس امرأة وتزوّجت برجل ظنّاً منّي أنّ هذا الرابط سيكون خلاصي. كنتُ أبحث عن معجزة تُشفيني من سُقمي لكنْ كلّ جهودي لم تكن سوى وسيلة للهروب من الرجل الذي يعيش في داخلي".
يبدأ رفض الجنس الأصليّ في وقتٍ مُبكّر جدّاً، فمنذ أعوامه الأولى، يقوم الطفل بسلوكيّات معيّنة تُشبه إلى حدٍّ بعيد سلوكيّات الجنس الآخر، كرغبته في انتعال حذاء أمّه منذ خطواته الأولى... أمّا الوعي إلى غرابة مشاعره وعدم تناسقها مع القواعد التي يفرضها المجتمع من حوله، فغالباً ما يبرز في سنّ البلوغ، فيعيش حينئذٍ مراهقة مضطربة يبحث خلالها عبثاً عن مكانٍ له في المجتمع.

طلب إعادة تحديد الجنس

أمّا إيلي فيقول: "كان الذهاب لرؤية الطبيب النفسي خطوةً غايةً في الصعوبة. لقد شرح لي ما كنت أعانيه، وما لم أكن أنا نفسي أفهمه مدّة 30 عاماً. لم يكن الأمر سهلاً. شعرت أنه كان يحكم عليّ ويريد تغيير ما في داخلي. في كثيرٍ من الأحيان كان ينصُب لي أفخاخاً ليُثبت أنّني أناقض نفسي بالكلام، فاضطرب حالي أكثر فأكثر، وطلبت بعد عامٍ تغيير الطبيب النفسي فكان هذا الأخير طوق النجاة الذي ساعدني على الوصول إلى برّ الأمان ومعرفة حقيقة من أكون".

يمرّ المتحوّل جنسيّاً بثلاث مراحل هي: مرحلة تقليد الجنس الآخر، ثمّ طلب تغيير الجنس نهائيّاً من خلال العلاجات الهرمونيّة والتدخّل الجراحيّ، وأخيراً تغيير وضعه الاجتماعي.ّ
في لبنان، يُمكن طلب إعادة تحديد الجنس. وفي بعض المستشفيات يتمّ اللّجوء إلى لجنة مؤلّفة من فرق طبّية متعدّدة الاختصاصات من أطباء نفسيّين وأطباء غدد وجرّاحين. ولا يعطي هؤلاء موافقتهم على إجراء التحويل الجنسيّ إلاّ بعد مرور عاميْن كامليْن على خضوع الفرد لعلاجٍ نفسيّ مُكثّف بهدف تأكيد أو دحض تشخيص الحاجة إلى "تحويل الجنس". فالعلاج النفسيّ يشرح للفرد النتائج المُترتّبة على قراره  في حال قام بالتحويل الجنسيّ، كذلك يشرح البدائل الطبّية والجراحيّة ونتائجها فضلاً عن كيفيّة التعامل مع الاكتئاب المُحتمل أو التفكير في الانتحار (وهي ظاهرة شائعة جدّاً بين المتحوّلين جنسيّاً).
خلال المدّة المذكورة، يتعيّن على الفرد الراغب في تحويل جنسه أن يعيش يوميّاته بين أسرته ومجتمعه وزملائه كما لو كان بالفعل قد قام بالتحويل الجنسيّ. فهذه المرحلة تُعد "اختبار الحياة الحقيقيّة" وتُساعد على تحسين وضع الفرد بعد إجرائه العمليّة واجتيازه جميع المراحل الدقيقة بنجاح.
بعد هذا الإجراء، يتمّ التأكّد من أنّ مقدّم الطلب به حاجة إلى تحويلٍ جنسيّ لوضعِ حدٍّ لمعاناته النفسيّة المُزمنة والنفور الاجتماعي والمهني والعاطفي له، وعندئذٍ يُتّخذ القرار بقبول طلبه تحويل جنسه كخيار علاجي أنسب لحالته.

العلاج الهرمونيّ

ينقسم العلاج الهرمونيّ إلى مرحلتيْن:

المرحلة الأولى: هي العلاج المضادّ للهرمون: مضادّ للهرمون الذكوريّ للرجال وهرمون البروجستين المانع لنشاط المبيض لدى النساء.  يُذكر أنّ آثار العلاج الموصوف خلال هذه المرحلة قابلة للعكس.
المرحلة الثانية: تتمثّل بضخّ هرمون الأستروجين للرجال وهرمون التستوستيرون للنساء. هذه العلاجات الهرمونيّة تتسبّب بنتائج لا رجعة فيها، وينبغي أن تستند إلى ضرورات علاجيّة حقيقيّة.

الانتباه إلى مضاعفات العلاج

قد يستسهل البعض الإجراءات التقليديّة، فيحاول الحصول على هرمونات من طبيبٍ يعرفه أو من أحد أفراد الأسرة أو من صيدليّة اعتاد التردّد إليها. هنا تجدر الإشارة إلى أنّ استخدام الهرمونات من دون متابعة طبيّة ونفسيّة يُعرّض الفرد لمضاعفاتٍ خطيرة.

إعادة تحديد الجنس بواسطة العمليّة الجراحيّة

تشمل إعادة تحديد الجنس لدى الرجال إزالة الخصيتيْن، يليها إنشاء مكان جديد للمهبل والبظر. أمّا لدى النساء الراغبات في تغيير جنسهنّ، فتشمل العمليّة الجراحيّة استئصال الثدييْن وإزالة الرحم والمبيضيْن، تليها عمليّة زرع قضيب بطرق مختلفة ومنها استئصال عضلات وأنسجة من أماكن عدّة في جسم الشخص الخاضع للعمليّة لتكوين القضيب. لكنّ النتائج المرجوّة من هذه العمليّة  ولاسيّما من الناحية الوظيفيّة، مهما كانت الطريقة المعتمدة فيها، ليست مُرضية بشكلٍ كامل.

جانب المُتعة!

تُصرّح أنطوانيت قائلةً: "لا يفهم الأطباء أنّ مسألة المُتعة الجنسيّة بعد الجراحة أمر ضروريّ. في حالتي، اضطررتُ إلى الخضوع لثلاث عمليّاتٍ جراحيّة من أجل التوصّل إلى الشعور بالمُتعة بشكلٍ مرضٍ مع شركائي". وتوضح مُتابعةً: "يعتبر المتحوّلون جنسيّاً نجاح الأعضاء التناسليّة في تأدية وظائفها أمراً غايةً في الأهميّة. ففي حالتها، هي المتحوّلة من ذكرٍ إلى أنثى، يشتكي شركاؤها من قصر عُمُق مهبلها الأمر الذي لا يسمح بالولوج بشكل مرضٍ. أمّا في حالات النساء المتحوّلات إلى رجال، فغالباً ما يكون عدم نجاح عمليّة زرع القضيب بشكلٍ مناسب ومرضٍ مخيّباً للآمال".

في الواقع، يستحيل إرضاء الأشخاص الراغبين في تغيير جنسهم بشكلٍ كامل، فهم يريدون من التدخّل الجراحيّ أن "يعيد لهم" جسمهم ووظائفه كما لو كانوا خُلقوا من جنس آخر. لكنّ العمليّة ليست بهذه السهولة، فالطبّ يقوم بتحويل جسم سليم بيولوجيّاً إلى جسم متغيّر غريب عن طبيعته، وعليه أن يتلقّى هرمونات بديلة مدى الحياة. بإمكان الطب تغيير الشكل ولكن حتماً ليس الجوهر. لهذه الأسباب جميعاً، يعيش المتحوّلون جنسياً تجربة محدودة ومشروطة نسبيّاً، فهم لديهم مظهر الجنس الآخر، لكنّهم ليسوا رجالاً أو نساءً 100%.  وغالباً ما تتسبّب هذه النتائج الحتميّة بألمٍ نفسيٍّ كبيرٍ تكون له عواقب قاسية ولاسيّما أنّ عمليّة الرجوع إلى الجنس الأصليّ أمر مستحيل. من هنا، يجدر التحذير من خطر الانتحار والإدمان والدعارة وغيرها من الآفات الاجتماعيّة التي قد تكون المصير المحتمل لكلّ من لا يحظى بعنايةٍ صحيحةٍ ومتابعةٍ نفسيّةٍ دقيقةٍ بعد القيام بعمليّة التحويل الجنسي.

الحالة الاجتماعيّة - الحلقة المفقودة

"منذ طفولتي كنت أحلم بأن أصبح فنّانة وراقصة. امرأة تتمايل على خشبة المسرح! وكنتُ على استعدادٍ لفعل أيّ شيء لتحقيق حلمي. وقفتُ بمفردي، وحاربت الجميع، وواجهت العراقيل بكلّ ما أوتيت من قوّةٍ للوصول إلى هدفي وإجراء العمليّة في بلدي الأمّ. وبعد مرور خمس سنوات، حقّقتُ التغيير في شكلي ولكن ليس في أوراقي الثبوتيّة لاستحالة تحقيق الموضوع في لبنان. دفعت الرشاوى والعمولات وقمت بفبركة التقارير الطبيّة المزيّفة التي تجعل من حالتي الطبيّة حالة "تصحيح جنسيّ" وليس حالة "تحويلٍ جنسيّ" حتّى حصلت على التغيير الذي أريده في أوراقي الثبوتيّة. بعد الإصرار والمثابرة أصبح ما ظننته مستحيلاً يوماً واقعاً ملموساً، لكنّ الحياة في لبنان بقيت مستحيلة ولم أجد لي مكاناً فيه. تخلّت عنّي عائلتي وأصدقائي، فتركتُ وطني وسافرت إلى بلجيكا بحثاً عن حياةٍ جديدة. هنا لا ينظر إليّ أحد على أنّني متحوّلة جنسيّاً، بل امرأة تسعى وراء حلمها وقد تمكّنت من تحقيقه".
للتخفيف من معاناة المتحوّلين جنسيّاً يجب تغيير جنسهم في السّجلات القانونيّة وتعديل وضعهم المدنيّ والاجتماعي، ولكن في لبنان، يكاد يكون هذا الأمر مستحيلاً  مع العلم أنّ تغيير الجنس في الأوراق الثبوتيّة لا يضمن بالضرورة تقبّل المجتمع للمتحوّلين جنسيّاً، فهذا الموضوع لا يزال من المحرّمات ولا يزال خارج التداول ويشوبه الكثير من المغالطات والحكم المُسبق والجهل. لذلك، فإنّ رحلة الخاضعين لعمليّات التحوّل الجنسيّ مليئة بالمشقّات والمخاطر. لكنّ السؤال يبقى: ألا يستحقّ هؤلاء لفتةً من دولتهم تؤمّن لهم العيش بكرامة؟ إذا كان العلاج الطبيّ والجراحيّ مُتاحاً في لبنان، أليس حريّ بالدولة أن تكرّس إجراءات قانونيّة تُثبت حقّ الأشخاص بتغيير جنسهم وتسهّل دمجهم في المجتمع من جديد؟ أليس من واجبها تأمين البيئة الحاضنة لهؤلاء الرجال والنساء ليعيشوا بشكلٍ شبه طبيعيّ بهويّتهم الجديدة من خلال تعديل وضعهم القانونيّ والمدنيّ؟!

مقالات قد تثير اهتمامك