النّـاس غبـارٌ مـن الضّـوء
النّـاس غبـارٌ مـن الضّـوء
النّـاس غبـارٌ مـن الضّـوء

النّـاس غبـارٌ مـن الضّـوء

بعد مشاركته في «مهرجان أمستردام للضّوء» استقبلتْ حديقة سمير قصير، في وسط بيروت، عرض علاء ميناوي من التّجهيز الضّوئيّ ضمن مهرجان «ربيع بيروت» (حتّى 4 حزيران/ يونيو الجاري). الفنّان فلسطينيّ الأب ولبنانيّ الأم، من مواليد 1982. تخرّج من قسم الفنون في الجامعة اللّبنانيّة الأميركيّة وانتقل من تصميم الإضاءة إلى تجهيز أعماله الفنّيّة بواسطتها منذ العام 2010. قدّم ثلاثة أعمالٍ بين «مونو» في بيروت ومهرجان أمستردام.

«نورٌ يرتحل» تجهيزك المُهدى إلى اللاّجئين السّوريّين وكلّ لاجئٍ ومهجّر، كيف بدأ في ذهنك؟

أعمل مع اللاّجئين السّوريين منذ ثلاثة أعوامٍ كمترجم، إضافةً إلى عملي في المسرح. كنتُ مترجم المقابلة الأخيرة لنحو ألف عائلةٍ مع سفاراتٍ أجنبيّةٍ وعلى أساسها يُمنحون الموافقة أو عدمها على الفيزا. ثلاث ساعاتٍ مدّة كل مقابلةٍ أسمع أثناءها شريط حياة عائلةٍ كاملةٍ مع الحدث - الصّدمة الذي أدّى إلى تهجيرها من وطنها.

إذن...؟

كان صعباً طبعاً أن أرويَ تلك القصص الخاصّة، مِنْ ترك الإنسان بيته إلى مكانٍ لا يريد المبيت فيه، إلى خسارة ابنٍ أو أخ، إلى مشاهدة أفرادٍ من العائلة يُقتلون أمام أحبّائهم. قلت إنّ هؤلاء المتألّمين يتّسمون بهالاتٍ معيّنة جرّاء ألمهم، ومن تلك الهالات وُلدت فكرة التّجهيز الضّوئيّ.

هل هذا التّجهيز للعائلة المهجّرة من مصابيح النّيون فقط بسبب ما رأيته أو تخيّلته من هالات الألم، أو أيضاً لأنّك مصمّم إضاءة؟

أعمل بالضّوء منذ نحو عشرة أعوام. ومنذ2010 بدأتُ أعمالي الخاصّة بالضّوء. ربّما هذه العلاقة مع الإضاءة دفعتني إلى الظّنّ أنّ البشر إنّما مصنوعون من الضّوء.

غبارٌ من الضّوء

هذا ما تقوله الفيزياء الحديثة أيضاً، حيث إنّ «الكائنات وسائر الموادّ هي طاقة»؟

نعم. قال لي أحدهم يوماً أنّنا إذ نموت لا نتحوّل تراباً بل غباراً كونيّاً، وهو بالمناسبة غبارٌ لامع، وسأضع وشماً على جسمي يقول: «إنّه غبار». أنا أؤجّل الأمر منذ ثلاثة أعوامٍ لكنّي وبمناسبة حوارنا سأعجّل في وضعه.

التّشدد يدفع بالمتديّن إلى خسارة إنسانيّته

أن تكون من غبارٍ كونيٍّ وإليه تعود في وحدة الإنسان مع الله وسائر الموجودات، فهذا يُخالف الفكر الدّينيّ لمنطقتنا، هذا الفكر الذي تتصارع الجماعات متسلّحةً به، فما رأيك؟

(يضحك) إذا شئت فأنا أذهب أبعد من التّراب وأعدّ الإنسان والكائنات غباراً من الضّوء حيث وحدة الوجود ووحدة الأجناس الحيّة. أمّا عن التّعصّب الدّينيّ في منطقتنا فالغريب كيف أنّ التّشدّد في الدّين يدفع المتشدّد إلى خسارة إنسانيّته. وآمل أن توصل هذه الحروب مجتمعاتنا إلى دولٍ تتبنّى العلمنة كما حصل مع الأوروبيّين وحروبهم. وأعتقد أنّ هذه الطّوفانات من الموت على أساسٍ دينيٍّ ستغيّر ذهنيّة النّاس وتدفعهم إلى تبنّي فكرٍ يقبل التّعدّدية الدّينيّة واللاّدينيّة أيضاً.

وضعتم المجسّمات السّتة للعائلة المهجّرة في حديقة سمير قصير حيث يعبُر المارّة بين الأمّ والأب والجدّ والعمّة والأولاد. ماذا تنتظر كفنّانٍ من هذه اللّقاءات اليوميّة طوال شهر؟

أنتظر منهم الصّمت ولو لثوانٍ، بعض التّأمّل والتّفكير في تلك العائلة. هكذا فعل الهولونديّون مع التّجهيز حين كانوا يعبُرون أمامه، يقرأون ملخّصاً عنه ويقفون صامتين.

كيف صمّمت أفراد العائلة قبل تشكيلها من أضواء النّيون؟

لا بدّ دائماً من موسيقى، إضافةً إلى قلم الرّصاص والورق. بدأ الأمر بخربشاتٍ مجرّدةٍ تحوّلت انحناءاتٍ وأشكالاً بشريّة. ثمّ رويداً راحت تُشبه اللاّجئين الذين كنتُ أترجم قصصهم أمام مسؤولي سفارات اللّجوء.

وبعد الرّسم...؟

هنا رحتُ أفكّر في الموادّ التي يُمكن تجسيد هؤلاء بواسطتها: الحديد، الزّجاج، البليكسي... إلى أن وجدتُ أنّه من المستحيل أن يكونوا إلاّ من النّيون ويجب أن يكون كلّ شخصٍ أو تمثالٍ خطّاً واحداً وهو ما تبيّن لي أنّه غير متوفّرٍ في معامل النّيون في الشرق الأوسط. لذا تمّ تصنيعها في هولندا.

ولماذا أردتَ تشكيل كلّ شخصٍ من خطّ نيون واحد؟

لأنّ هؤلاء البشر على الرّغم من انكساراتهم لا يزالون يتّسمون بالصّلابة. وإنّ النيون أيضاً يُشبه البشر لجهة أنّه يعيش عمراً محدّداً ثمّ ينطفئ. ويُشبه في شكله عظام البشر فهو هشٌّ «يطقّ» أو ينكسر من ضربةٍ أو لمسة، مثلما قد تجرح هؤلاء اللاجئين كلمةٌ أو موقفٌ قبل أن يواصلوا حياتهم. إنّنا ننسى غالباً أنّهم يحتاجون احتراماً ومحبّةً قبل أيّ شيءٍ آخر.

مجلّةٌ هولنديّةٌ قالت إنّ تجهيزي من أفضل ثلاثة أعمالٍ بين سبعين

كيف كان صدى تجهيزك «نوري هو نورُك/ نورٌ يرتحل» في أمستردام؟

مجلّةٌ هولنديّةٌ وجدت أنّه من بين ألف فكرةٍ قُدّمت إلى مهرجان أمستردام للضّوء 2014، اختير منها سبعون للعرض، كان تجهيزي واحداً من أفضل ثلاثة.

الأونيسكو اختارت التّجهيز

ضمّت منظّمة الأونيسكو تجهيزك إلى ما اختارته من أعمالٍ بمناسبة «2015 السّنة العالميّة للضّوء». فكيف تمّ الاختيار؟

رئيس اللّجنة التي قيّمت الأعمال، وهو من المتخصّصين في الفنون والإضاءة، بعث إليّ برسالةٍ إلكترونيّةٍ يُعلمني فيها باختياري، وفهمت أنّهم يزورون مهرجانات الضّوء في أوروبا، لاختيار الأعمال وتوثيقها وترشيحها لمسابقةٍ دوليّةٍ حول الطّاقة وتوفيرها في العالم.

تدور حول العالم كأيّ عاملٍ في الفنّ اليوم. ماذا عن المكان؟ هل من مكانٍ ترجع إليه علماً أنّك فلسطينيٌّ من مواليد بيروت وربّما عانيت أصلاً مسألة الاقتلاع؟

شخصيّاً لم أعانِ اقتلاعاً. فأنا من الجيل الثّالث. لكنّ جدّي ترك فلسطين وهو من زَرَعَ فيّ فكرتها. وأظنّ أنّ الخيال يبدأ يعمل في الفلسطينيّ باكراً مذ يروحون يروون له الأخبار عنها. فمن حكايات جدّي شممتُ روائح الرّصيف ورأيت أشكال الجدران وألوان الشّجر وزُرقة البحر أيضاً، ذلك أنّنا من يافا. أعرف فلسطين بالمخيّلة أوّلاً وليس من الصّور أو الإنترنت.

فلسطين والعودة

مِن سكن خيمة إلى العرض في وسط بيروت

ويتابع ميناوي: «حين وصل جدّي إلى لبنان سكن خيمةً في مقبرة الدّاعوق في بيروت. بعد سنواتٍ من العمل انتقل ليسكن بيتاً ويربّي أبناءه ومنهم والدي الذي سافر للعمل في السّعودية وربّانا في بيروت في شارع مارالياس. ولو لاحظتَ فإنّ الجيل الثّالث من الفلسطينيّين أنبت العديد والكثير من الفنّانين. في افتتاح معرضي في وسط بيروت فكّرت كيف تغيّرت حالنا من سكن المقابر إلى عرض أعمالنا الفنّيّة في وسط بيروت. وهذا ما أريد قوله للاّجئين السّوريّين: «إنّ الإنسان يتأقلم وينهض ويستمرّ كحال عائلتي، فلا تفقدوا الأمل أيّها الأصدقاء».

ماذا بقيَ من الجذور، فلسطين، فيك؟

والدتي لبنانيّة، إذن فنصفي لبنانيّ. النّصف الآخر موجودٌ في كلّ شيء. لهجتي لبنانيّةٌ لكنّ القوّة والإرادة في المشاريع وتنفيذها تصدر عن نصفي الفلسطينيّ.

هل تريد العودة؟

لا أعرف. بالتّأكيد أريد أن أرى بيت جدي، بالأحرى بيوتنا. حتّى لو عدت لأمضيتُ نصف العام من كلّ عامٍ في بيروت، في شارع الحمراء. لطالما فكّرت في الهجرة إلى أوروبا لكنّي عدلتُ دوماً. فرغم صعوبة بيروت إلاّ أنّها مناسبةٌ للعيش والإبداع. أنظر إلى أعداد المخرجين المسرحييّن والممثّلين والمطربين والمطربات من مختلف الأجيال. مسارحهم تُضاهي مسارح أوروبا، بخاصّةٍ مسرح سوسن بو خالد. ثمّ مَن قال إنّ الحياة في أوروبا ليست بصعوبة الحياة في بيروت؟

شاركت في نحو 300 عرضٍ في لبنان والخارج كمصمّم إضاءةٍ ومخرجٍ تقنيٍّ وممثّل. أين أنت من كلّ تلك الحقول؟

منذ العام 2010 وأنا في الضّوء وفنّ التّجهيز بواسطته. وقد تدور رسالتي للماجيستير حول السّينوغرافيا عن طريق الضّوء، بعدما قُبلت في جامعة «أوتريخت» الهولنديّة. وسأتناول الإضاءة كشخصيّةٍ ذات حياةٍ ومشاعرَ وسلوكٍ وطبعاً طاقة. فلا بدّ من أن يدرس المخرج إضاءة عمله كما يدرس أدوار ممثّليه قبل أن يبدأ تنفيذ المسرحيّة وليس في المراحل الأخيرة.

تجديد التّيلفيريك

أنت من ضمن مشروع، إذا تمّ قبوله، فسيُغيّر شكل «التّليفريك» بين جونيه وحريصا. علامَ تعمل بالضّبط؟

صمّمتُ الفكرة الجديدة وأساسها الضّوء بهدف إضاءة التّليفريك كما لو كان قناديلَ تتحرّك ليلاً، ما قد يجذب النّاس إليه أكثر. عِلماً أنّ 2015 هو الذّكرى الخمسون لافتتاح التّليفيريك.

صمّمت إضاءةً جديدةً للتّليفريك وحفلات ريما خشيش وأميمة الخليل

إضاءة خشيش وأميمة

صمّمتَ إضاءة الحفلَين الغنائيَّين في أيّار/ مايو للفنّانتَين ريما خشيش وأميمة الخليل. كيف شكّلت إضاءة كلٍّ من الحفلَين؟

أنطلقُ في الإضاءة من شخصيّة المغنّية. ريما امرأةٌ هادئةٌ وصوتها أيضاً. انطلقتُ في تصميم الإضاءة من هذا البُعد الدّاخلي بحيث يكون الضّوء مشعّاً ولكن هادئاً وليس خافتاً. هكذا اندفع الجمهور لا لرؤية الخشبة والمطربة بل للحلم والخيال. بالنّسبة إلى أميمة لم أتعرّف عليها بعد. بدأت أبحاثي عنها وسألتقي بها بعد أيّام.

مقالات قد تثير اهتمامك