حنان الشّيخ: «هكذا أُغرم بي أُنسي الحاج»

حنان الشيخ الكاتبة والانسانة والنجمة الأدبية في حوار مع "الحسناء" بعد روايتها الأخيرة "عذارى لندنستان" أجرته لينا حوراني في بيروت.

روايتها الأخيرة تُقرأ بشغفٍ يُعيد للقراءة بالعربيّة مغناطيس الجذب وسحر السّرد. «عذارى لندنستان» تفنّد فيها حنان الشّيخ علاقة أصوليٍّ عربيٍّ في الغرب مع الدّين والمرأة والجنس. ولكن ليس الأصوليّ وحده، بل بطلتاها العربيّتان (مسلمة ومسيحيّة) اللّيبراليّتان في علاقتهما مع الذّات والحداثة و«الآخر» - المتعصّب.

في مقهى مطلٍّ على البحر، في عين المريسة، التقيت حنان الشّيخ الكاتبة والإنسانة والنّجمة الأديبة هنا أو حيثما تُرجمت أعمالها في العالم.

من «إنّها لندن يا عزيزي» إلى روايتك الجديدة «عذارى لندنستان». لماذا لندن في الرّوايتَين؟

أعيش هناك وأتفاعل مع المدينة والنّاس. أحداث المغامرة في الرّواية حصلت فيها. إيفون وهدى، البطلتان كنت قد كتبت حكايتهما في روايتي القصيرة: «امرأتان على شاطئ البحر». لكن بعد أعوامٍ كنت في «سبيكر سكورنر»، في الهايد بارك الشّهير، حيث بات يطغى على المنبر الإسلاميّون والمبشّرون المسيحيّون وبعض البوذيّين ثمّ مَن يريد تحميس النّاس على الضّحك لفوائده الصّحّيّة. يومها استوقفني خطيبٌ أعجبني أحياناً وازدريتُه أحياناً أخرى. فاستعدتُ إيفون وهدى وشاهدتهما تكمّلان رحلتهما لكن هذه المرّة في لندن.

كأنّ فيها نَفَس صدام الحضارات؟

الرّواية تبدو حول الدّين وتأثيره في النّاس. ليس الإسلام وحده من يتضمّن العُنف والتّشدّد وسوء التّفاهم مع الآخر، بل المسيحيّة أحياناً. البطلتان تعودان إلى مرحلتَي الطّفولة والمراهقة عندما لم يكن التّديّن على ما بات عليه، بخاصّةٍ بالنّسبة إلى هدى ابنة العلاّمة في بيروت.

الرّواية كوميديّة، أيضاً، على طريقة «الفارس» ربّما لأنّ «شرّ البليّة ما يُضحك». إنّها تتحدّث طبعاً عن المجتمع وموقف الرّجل من المرأة، عن الحبّ أيضاً وعن الجنّة والنّار.

تطرح الرّواية ما تسمّيه «الفقر العاطفيّ» لدى المرأة.

في بيروت حيث أنا اليوم كما في أوروبا أشاهد صبايا وحيدات. أين هو الرّجل؟ أين هم الرّجال؟ ولماذا ما عادوا يريدون الارتباط ولا الزّواج؟ تغيّرت العلاقات وحتّى الجنس إذْ لم يعد الحبّ ما يقود إليه، بل إنّ العلاقات نفسها ما عادت تقوم سوى على الرّغبة.

والرّغبة أليست حبّاً؟

رغبة يومٍ أو يومَين، كما الطّيور والحشرات والحيوان تحتاج إلى الجنس.

مراسلاتي مع أنسي

لكن أنسي الحاج يقول «الجنس يأتي بحبّه معه»؟

عندما كتب أنسي ذلك كان هذا حقيقيّاً. اليوم صار الجنس كمن يقلع ضرسه لدى الطّبيب ثمّ يُشفى منه. الله كم أشتاق إلى شخص أُنسي...

أنتِ رثيته في صحيفة «الحياة»...

أحتفظ برسائلَ عديدةٍ منه. كنّا نتراسل منذ كنتُ في الخامسة عشرة في المدرسة الدّاخليّة في صيدا. أرسل إليّ رسالةً باعتباره فتاة. كنتُ أحمل بنفسي إلى «النّهار» بين 1959 و1961 وجدانيّاتٍ أكتبها. كان عنوان مقطوعاتي «إلى نان» وقد حذفتُ الحاء من اسمي: حنان. لم أكن قد التقيتُ به في الصّحيفة لكنّي شاهدته في صورةٍ مع «السّكسوكة». كنت قد اخترتُ المدرسة الدّاخلية لأبتعد عن الأهل، وفي عطلة الرّبيع حملتُ يوماً الغداء إلى والدي فلقيتُ أنسي في ساحة البرج، قرب «سينما عازار». قلت له: "مش أنسي الحاج؟" قال بلى. قلت أنا كاتبة الوجدانيّات.

وراح يبعث إليك بالرّسائل إلى المدرسة الأميركيّة للبنات في عين الحلوة في صيدا؟

كتب لي أُنسي: أحبّك أكثر من أيّ إلهٍ كان!

كتب لي في رسالته الأولى باعتباره فتاة: لقد اشتريتُ فستاناً جميلاً (تضحك). ما ألذّه أنسي. وعندما سافرتُ إلى مصر بقينا نتراسل.

كانت رسائل غرام؟

كلاّ. كنتُ أخبره بمشاكلي وهو ينصحني. ولكن في الأخير كتب لي: «نان، نان، أحبّك أكثر من أيّ إلهٍ كان». أخاله كان يتلاعب لفظيّاً! كان أنسي ولم يزل شخصاً مهمّاً في حياتي.

ألم تغرمي به؟

لا. بل كأنّه كان العمود الفقريّ لي، لكونه شاعراً وذكيّاً وكلّ ما يمثّل. بين كلّ من حولي كان هو مَن يفهمني، جوّه جوّي. كان عالمي ضجراً وضياعاً وكان هو السّفينة. ولست وحدي. بل كان كذلك لأخريات، أذكر منهنّ راغدة ضرغام ورينيه فرانكودس وسواهما.

ألم يُغرم بك أنسي؟

أغرم بكثيرات. أُغرم بنضال الأشقر. بلى أُغرم. لكن هل هو حبّ؟ كان يحبّ أن يُغرم لكي يكتب. لكي يتعذّب (تضحك). لا أخاله أُغرم غراماً.

وكنتِ مغرمةً بسواه؟

نعم.

وتخبرينه؟

نعم وكان يحذّرني بالقول أو الكتابة: «احذري يا صغيرتي»، أو ربّما كتب: «يا حنان كوني كما عهدتك متماسكة». يومها أخبرته عن أحدهم في مصر وقعت في هواه وخَشي أن يستغلّني.

ألن تنشري الرّسائل؟

لا.

كم عددها؟

عشرون رسالةً كتبها على مدى ستّة أعوام. ما أجمله أُنسي.

الخال وتوفيق الصّايغ

غير أنسي من عرفت وصادقت من الشّعراء؟

يوسف الخال، وفؤاد رفقة، وتوفيق الصّايغ. توفيق جُنّ حين عرف أنّي من مواليد 12 تشرين الثّاني لأن مَن كان يعشقها وكتب لها القصيدة «كاف» من مواليد هذا اليوم. وبعدها كان يصلني منه في كلّ عيد ميلادٍ بطاقة تهنئة. وكان ينصحني بالتّركيز على الكتابة.

توفيق مات في المصعد في الولايات المتّحدة وكان يعاني هجمات الصّحافة العربيّة عليه بعدما تبيّن أنّ مؤسّسة «فرانكلين» التي تموّل مجلته «حوّاء» كانت الـ «سي. آي. إي. » ترفدها بالمال.

طبعاً لم يكن توفيق يعرف بهذا التّمويل. ورغم أنّه أصدر بيان اعتذارٍ أوضح فيه المسألة وأوقف المجلّة، لكنّه جُعل كبش فداء كلّ الهزائم العربيّة آنذاك.

ويوسف الخال...؟

كان أيضاً محلّ أمانٍ لي. يومها كان أصحاب المواهب من الشّبّان والشّابّات يبحثون عن أشباهٍ لهم يحتضنونهم. وكان يوسف أحدهم.

أنا وأمّي

«حكايتي شرحٌ يطول» كانت تحيّةً لوالدتك وآلامها.

 كانت رائعة أمّي. من الجيّد أنّي سمعت سيرتها قبل وفاتها وهي أجبرتني على الكتابة.

كيف أجبرتك؟

تركت أمّي البيت يوم كنتُ في سنّ السّادسة. كانت أمّيّةً وكلّما كتبتُ زاويتي «لبنانيّات مرتفعات» في ملحق «الرّياضة والتّسلية» في «النّهار» (مع شوقي أبي شقرا) كانت أمّي تسمع الإعلان عنها مع اسمي في التّلفزيون. وتقول لي: «كلّ تلك النّساء غير مهمّات، لقد وُلدن في عائلاتٍ ذات حسبٍ ونسب. أما أنا فلم يعتنِ بي أحد». ولكنّي لم أقتنع بكتابة سيرتها. وحين أصدرتُ «حكاية زهرة» عرفتْ أنّي ذكرتها في شخصية الأمّ التي لديها عشيق. وعاتبتني أنّي لم أذكر السّبب.

وعادت قبل أن تتوفّى بعامٍ لتمسكني من يدي قائلة: «عليكِ بكتابة حياتي». وأضافت: «يا ابنتي قطعة خشبٍ في داخلها رصاصةٌ غلبتني». كانت تقصد قلم الرّصاص وأمّيّتها. عندها قرّرت أن أستجيب لرغبتها.

يخشى الرّجل طاقة المرأة الجنسيّة ويقمعها

في الأخير وجدتِ أنّها عانت وطأة العادات والتّقاليد...

نعم. المجتمع القبليّ والظّلم لأنّها فتاة.

هل تردّدتِ في تعرية والدتك؟

أبداً، هي أرادتها وأنا سُررتُ ككاتبةٍ رغم الألم وأنا أكتب. شعرتُ أنّنا تبادلنا المواقع فقد غدت ابنتي وغدوتُ أمّها. أعجبتُ بها وأشفقتُ عليها في آن. وشعرتُ أنّها مَن يكتب لا أنا. ثمّ تأكدّتُ أنّها مَن وضع الكتاب. كانت هي المركب وأنا الرّيح التي دفعته.

شهرزاد

«صاحبة الدّار شهرزاد» روايتك تحوّلت مسرحيّةً أعاد صوغها وأخرجها تيم سابل، البريطانيّ. كيف كان صدى المسرحيّة والكتاب؟

لم يتمّ تناوله ولو بمقالٍ في الصّحافة العربيّة. هل ظنّوا أنّه كليشيه؟ لا أعرف. لكنّه نال في الصّحافة الغربيّة اهتماماً. الأسبوع الماضي كتبتْ «لوموند» عن التّرجمة الفرنسيّة، ومجلّة «ماريان» النّسائيّة المعروفة. كذلك حَظي من «النّيويورك تايمز» بمقالةٍ أشادت به. أمّا المسرحيّة، أدّاها 24 ممثلاً معظمهم سوريّون وموسيقيّون من مصر والأردن.

يخشَون المرأة

هل تقولين بوجود صراع أنوثة/ ذكورة؟

نعم.

ما أسبابه؟

الدّين. وكيف شرّحه النّاس. في أميركا، مثلاً، اكتشفتْ أخت زوجي بعد أعوامٍ أنّها تتقاضى راتباً أقلّ من زميلها في العمل فقط لكونها امرأةً وهو رجل. أضف أنّ الرّجال يخشَون رغبة المرأة الجنسيّة. فلو لم تكن مطيعةً لثارت على الظّلم اللاّحق بها. وأعتبر أنّ المرأة الصّادقة إنّما تنتزع قرارها ومصيرها بيدها، كما فعلت أمّي. حتّى إنّها تركت أولادها لتحقيق حلمها. وأنا لا ألومها على ذلك، بل أقول: "عافاها". أليس حراماً تزويجها في سنّ الثّالثة عشرة بدل أن تلهو مع رفيقاتها؟ أيُعقل أن تُرجم النّساء حتّى اليوم والرّجال يتباهون بفحولتهم؟

ضرورة الحرّيّة الفرديّة

هناك مَن يعتبر أنّ الحرّيّة الفرديّة للمرأة في تبنّي المنظومة الثّقافيّة الغربيّة، غير ضروريّة. وأنّ أمّهاتنا، إجمالاً، كنّ سعيداتٍ في مجتمعٍ السّيطرة فيه للرّجل، فما رأيك؟

أمّي ثارت على السّلطة الذّكوريّة ولم تكن سعيدة. طبعاً هناك حالاتٌ مُختلفةٌ أقلّ ظلماً. ولكن لم تكن هواجس النّساء نفسها اليوم. كان اهتمامهنّ توافر الغلّة، شقاء الأولاد، العمل المُضني في الحقول. ربّما كنّ سعيداتٍ في اختيار نوع الطّبخة، أو على البيدر حيث يزرعنَ ويحصدنَ ويُغنّين. كنت أشاهدهنّ في صغري في قريتي البقاعيّة. وإحداهنّ كانت تسوق التّراكتور فخورةً بنفسها. ما من قاعدة. يختلف الأمر من عائلةٍ إلى أخرى ومن طبقةٍ إلى طبقة.

لماذا لا نسير بالملايين ليصبح رجم المرأة من التّاريخ؟

عنبرة سلام العظيمة

أيْ لم تكن حرّيّة المرأة ضروريّة؟

بل ضروريّةٌ دوماً. ولا نعرف بماذا كنّ يشعرن في أعماق ذواتهنّ. خذ مثلاً عنبرة سلام، أخت الرّئيس صائب سلام، أوّل مَن رَفَعت الحجاب عن رأسها في لبنان كما فعلت هدى الشّعراوي في مصر. لم تكن والدة عنبرة ولا جدّتها تريدانها أن تتعلّم. ولا المجتمع. لكنّ والدها وَقَف إلى جانبها. عظيمة كانت عنبرة سلام.

الخوف من المرأة

ذكرتِ خوف الرّجل من شهوة المرأة؟

نعم. حتّى وأنا أقرأ السّتة آلاف صفحةٍ في «ألف ليلة وليلة» عرفتُ سبب خوف العربيّ من المرأة. فهو ربّما قرأ عن الأنس والجنّ من النّسوة المندفعات جنسيّاً والمكافحات لتحقيق رغباتهنّ. وإنّ المرأة ليست مصنعاً لتفقيس الأولاد بل أنّها تتلذّذ مثله بالفعل الجنسيّ. وهكذا يأتي قمع رغبات المرأة خوفاً من أن تُفكّر في غير زوجها.

فلنوقف الرّجم

هل تعتبرين نفسك مناضلةً نسويّة في الأدب؟

لا.

ما رأيك بالحركة النّسويّة في الغرب؟

عظيمة. لم تعد كما في السّابق وباتت تحارب لإقرار قوانينَ معيّنة. كالمساواة في الرّاتب مثلاً. أو مساواة عدد مديرات محطّات التّلفزة وسائر مجالات العمل بعدد المديرين.

وفي العالم العربيّ؟

لستُ مطّلعة تماماً. لكنّي أعرف أنّه عندنا باحثات وجمعيّات تُساعد النّساء. لكن لا أخال أنّ لدينا تجمّعاً فعّالاً وإلاّ لغدت مسألةٌ كرجم المرأة من التّاريخ. لماذا لا نسير جميعاً، بالملايين، لوقف الظّلم؟ لو كنتُ أصغر سنّاً لأنشأتُ تجمّعاً كهذا.

متفائلةٌ بالرّبيع

والرّبيع العربيّ كيف نظرتِ إليه؟

سررنا جميعاً في البداية إذ ظننّا أنّ شلالاتٍ اندفعت وستصبّ في البحار. ثمّ تغيّرت الصّورة. لكنّي متفائلة. وأتمنّى أن يكون ما يجري اليوم ممرّاً كالسّائر في كهفٍ باتّجاه النّور. وتجربة تونس تمنحنا الأمل. لعلّه الحبيب بورقيبة العظيم حين غيّر القوانين فأوقف تعدّد الزّوجات وسوى ذلك، قد عبّد الطّريق للحريّة. حضرتُ ذات يومٍ زفافاً في تونس وكان في مبنى البلديّة. لن أنسى ما قاله رئيس البلديّة للعروس: «لا تجلسي في البيت بل اعملي لتكونا متعادلَين ومتساويَين». تمكين المرأة مادّيّاً يُسهم في استقلالها ومساواتها مع الرّجل.

مقالات قد تثير اهتمامك