حنان الحاج علي: الفنانة الحقيقية لا تخشى الجرأة!

أنها حنان الحاج علي... حنان أكثر من ممثلة، وأكثر من مجرد مؤدية للشخصيات التي تلعبها. هي تندمج مع الشخصيات حتى الذوبان، تشكلها بحواسها وإحساسها، بنبضها ونفسها وحركتها، وكل تفاصيلها كإمرأة، وتعيدها الى الحياة، لتسخرها لخدمة القضايا والحكايا التي تنقل تفاصيلها على المسرح.

في مسرحية "جوغينغ" هي جريئة وأكثر، تتجاوز الحجاب الذي يغطي شعرها، وتبوح كلاما وإيحاء بمفردات وحركات يقال عنها عادة أنها خادشة، ولكنها تعرف كي تطوعها، لكي تخدم قضيتها بعيداً عن الإبتذال، وشدة إنسيابتها يخيّل إلى من يشاهدها أو يسمعها أنها لم تقلها ولم  تفعلها.

طوال اكثر من ساعة لم تهدأ حنان الحاج علي المسرح، خلال عرضها مسرحية "جوكيتغ" بل هي سيطرت عليه بحركتها الدؤوبة التي لا تكل ولا تتعب، وكأنها بركان يفجر حممه في كل اتجاه، مضئياً على الجمهور الذي لاذ الصمت إستماعاً وإعجابا بفنانة من طراز آخر، لم يعتد على مشاهدة الى قليلات مثلها.

حنان الحاج علي التي تمنّت الموت لابنها، عند إصابته  بمرض السرطان. جالت بمسرحيتها في مختلف المناطق اللبنانية، وخارج لبنان حصدت أكثر من جائزة أهمها: جائزة أفضل ممثلة في أدنبره، وإستطاعت ان تحبس انفاس البريطاننين وهي تستعيد شخصية ميديا يوريبيدوس التي قتلت أولادها انتقاماً من زوجها، وإيفون التي إنتحرت وبناتها الثلاث بالسم ، وزهرة التي فقدت أولادها الثلاثة لاحقاً في حروب  لبنان وسورية.

ارتجال في الملجأ

تتمتعين بطاقة كبيرة تتجلى من خلال تعبيرك وأدائك وحركتك على المسرح، فهل السبب هو شغفك بالمسرح أم لأن الفن عندك  هو شيء حقيقي ويرتبط بالعطاء من الذات؟

أنا اكتشفت المسرح خلال الحرب، في الأساس كان والدي يريدني أن أصبح طبيبة. كنا في الملجأ نقوم بإرتجالات فنية لكي نساعد الناس على المقاومة، إلى  ان قالت لي إحدى السيدات "كيف ترتجلين كل هذه الأشياء،انت موهوبة بالمسرح لماذا لا تدرسينه"، ويومها لم أكن اعرف ان المسرح يدرّس، وكان يومها في المبنى نفسه مع كلية التربية. فدرست اختصاصين، والمسرح درسته بالخفاء عن اهلي، لأن الفنانة يومها كانت تعتبر إمراة سيئة السمعة. كانت الطبقة الوسطى التي إنتعشت في الستينات تعاني من تناقضات، لأن اصلها من الفلاحين قبل أن تدرس وتصبح موظفة. هي من جهة معلقة بالعادات والتقاليد ومن جهة اخرى، كانت تتذوق الفن. والدي كان رئيس مخفر، وكان ووالدتي يحرصان على حضور حفلات فيروز وام كلثوم، وبعد سنتين إكتشف والدي اني ادرس المسرح، ضربني ولكنني لم ازعل منه، لأنني كنت أعتبر اننا جميعاً مسؤولون عن هذه الصورة البشعة، المجتمع والفنانون، ولأني كنت أدرك بأن والدي عندما يعرف ما هو مستوى المسرحيات التي نقدمها، سيصبح من أول المناصرين وهذا ما حصل فعلا. أول أعمالي كانت مع  فرقة الحكواتي التي كانت تعيد كتابة التاريخ من خلال ألسنة الناس وحكاياها، والمسرح كان بالنسبة إلي منصة و "آغورا" لقول الأشياء، والإحتكاك، لكي نتمكن جميعاً من ان نكون حلقة واحدة. شغفي  بالمسرح، لم يأت من شغف إمراة تريد ان تصبح ممثلة، بل ايضاً من ارتباط عميق بقضايا مجتمعي، إضافة إلى أن المسرح بالنسبة إلي، ليس لكي أمثل  شكسبير وسوفوكليس  أو نصاً أكتبه على ذوقي، بل هو  مرتبط بكل شيء نعيشه على المستوى السياسي والإجتماعي والإقتصادي، لان التغيير يحصل من خلال الفن، وأنا أعتبر أنه في حال حصل تغيير حقيقي في العالم، فانه سيتحقق من خلال الفنون والثقافة، وليس من خلال السياسة. الى ذلك فإن قوتي استمدها من أدواتي، وهي جسمي ونفسي وعمودي الفقري. انا مستمعة جيدة لجسدي، كما أنني امارس الأيروبيك والرقص والجوغينغ، وكل هذا يساعدني.

التجريب

عندما يُسأل بعض الفنانين عن تراجع الحركة المسرحية، يعيدون السبب إلى ضعف الإنتاج، واللافت أنك تقدمين مسرحك بادوات بسيطةً. لا شك ان المال ضروري ولكن هل يحتاج الإبداع إلى أموال طائلة؟

الادوات البسيطة التي تتحدثين عنها، تبلغ تكلفتها 10 الاف دولار، عدا عن أنني نفّذت هذا العمل على فترات طويلة، وغيّرت كثيراً في النص والإخراج، وجربت كثيرا، والتجريب يحتاج الى اموال. كثيرون يسألون ماذا حضرت لنا من بعد المسرحية، ولا اعرف ما إذا كنت أملك الطاقة لكي اقدم الجديد، لأن المسرحية تطلبت مني الكثير من الجهد والإصرار والعزم والتجريب. هذه المسرحية احتاجت إلى خمس سنوات، لكي ترى النور ولكن بشكل متقطع.

وهل غيّرت في العنوان أيضاً؟

في البداية إخترت لها عنوان "run  run henno"  ومن بعدها اعتمدت " جوغينغ" لانه سهل ويعبر عني و"شببلكي"، ولكن عندما أعرضها في الخارج اسمّيها "جوغينغ: مسرح قيد الطلب". لانني اعتبر ان المسرح الذي يجمع المواطنين من خلال الفن ويناقش القضايا المهمة ويقدم اشياء حلوة ومسلسة ومفيدة، يجب ان يظل طول الوقت، وليس تقديمه  بشكل استثنائي.

هل باشرت بالكتابة عندما مرض ابنك؟

بل ابني أصيب بالمرض قبلها بسنوات، ولكن عندما مرض وتمنيت أن اقتله بمنتهى الحب لكي اخلصه من الألم، لأنني كنت عاجزة عن افعل له شيئا، وفي تلك اللحطة خطرت في بالي "ميديا".

الا تخافين ان تتهمي بالتحريض على القتل؟

ابدا، بدليل ان احداً لم يقل لي ذلك.  هذا العمل هو فعل ايمان وفعل امل، والمهم هو المحصلة التي يمكن ان تنتج عنه، من خلال هذا اللقاء الحيوي مع الطلاب الذي نراهن عليه لتحقيق التغيير.

لا تخلو المسرحية من الكلمات الجريئة والخادشة للحياء ومن الإيحاءات الجنسية، الا ترين ان ها الأمر يتعارض مع حجابك المتمسكة به، حتى انك لجأت إلى الشعر المستعار في المسرحية؟

الحياة لا يوجد فيها  أبيض وأبيض وأسود وأسود، والحجاب هو هوية قبل ان يكون اي شيء آخر ، انا وضعت الحجاب لانه جميل والله يحب الجمال، ولكي لا تنعدم فكرة ان المرأة المحجبة كما المرأة غير المحجبة، لا يمكن ان تكون فنانة للعظم وجريئة وتدخل المناطق الشائكة. أنا اعتبر ان الفنان الحقيقي هو الفنان الذي  يغامر ويضع نفسه في دائرة الخطر، والذي يكشف عن أوجه لا تُكشف عادة، سواء بالاحداث أو القصص او الشخصيات وبما ان المسرحية تتكلم عن نساء، البعض منهن قريبات مني وبعضهن الآخر بعيدات، استعملت  السير الجميلة للفن، التي يمكن ان تبقي على خياراتي الشخصية وفي الوقت نفسه الى البعيد من دون التطرق الى الإبتذال .

لكن ألا ترين ان الدين يتعارض مع الجرأة وان كانت غير خادشة؟

قناعتي الشخصية هي ان الله جميل ويحب الجمال. وإذا كانت تتكامل في المسرحية عناصر الجمال والجمالية الفنية،  فإنها في صلب ما يحبه الله وتالياَ في صلب الدنيا والدين في آن واحد.

(نشرت هذه المقابلة في عدد الحسناء 1891)

مقالات قد تثير اهتمامك