نضالٌ في وجه ثلاثُ بنى ذكورية

لطالما كانت المرأة اللّبنانيّة رائدةً اجتماعيّاً وسياسيّاً، وتُعدّ مثالاً في العالم العربيّ لجهة التّقدّميّة والنّضال من أجل مساواتها مع الرّجل والنّزول إلى العمل ومشاركتها في الحَركات السّياسيّة والحزبيّة والتّحرّريّة. وكان القانون اللّبنانيّ قد أقرّ منذ العام  1953 حقّ المرأة في المشاركة في الانتخابات العامّة ترشيحاً واقتراعاً، نتيجة حركةٍ احتجاجيّةٍ قامت بها مجموعاتٌ نسائيّةٌ من النّخبة المُثقّفة بمساعدة رجالٍ تقدّميّين.

اليوم تحتلّ المرأة اللّبنانيّة الصّفوف الأماميّة في تظاهرات الحراك الشّعبيّ، ولكنْ هذه المرأة نفسها ليست موجودةً اليوم في قيادة أيٍّ من المجموعات النّضاليّة التي تمخّضت عن الحراك. هي تُشارك من منطقٍ شخصيٍّ وفرديٍّ كمواطنة، وتُضرب وتُهان وتُعتقل من رجالِ الأمن ونسائه في الشّارع، مثلها مثل الرّجل.

من أضعف النسب

لكن شتّان ما بين الخمسينيّات والسّتينيّات واليوم، فهذه المرأة نفسها التي تتطوّر كفرد، اجتماعيّاً وثقافيّاً وأكاديميّاً بسرعةٍ قد تسبق تطوّر الرّجل اللّبنانيّ، سبقتها نساءٌ من مختلف البلدان العربيّة ودول العالم الثّالث لتتبوّأ مراكز القرار أو لتتمتّع بكامل حقوقها المدنيّة والسّياسيّة والحزبيّة، ولتكون درجةً أولى يحميها القانون من العُنف والقوانين البائدة التي تُعلي من شأن زوجها وأبيها وأخيها والطّائفة والنّظام الأبويّ بعامّة، ويضمن مشاركتها في صنع القرار. فلبنان يحتلّ اليوم المرتبة 136 عالميّاً من حيث مشاركة المرأة في الحياة السياسيّة، بحسب الدّراسة الدّوليّة للمعلومات عن النّساء في برلمانات العالم الصّادرة في 2015. ومشاركة المرأة في البرلمان اللّبناني مثلاً، هي 2.3%  (4 نساءٍ من أصل 128 نائباً في مجلس النّواب) وهي من أضعف النسب في العالم.
ومنذ إنشاء دولة لبنان الكبير حتّى اليوم، هناك 7 نساءٍ فقط تولّين مناصبَ وزاريّةً و10 منهنّ مناصب نيابيّة. وهؤلاء دخلنَ «الكار» السّياسيّ بوساطة عائلاتهن السّياسيّة، ولم تكن أيّ واحدةٍ منهنّ امرأةً مناضلةً أو رئيسة حزب. فهذه المشاركة لا يُعوّل عليها لكونها تندرج ضمن الأسرة السّياسيّة الذّكوريّة.

مواطنة درجة ثانية

المرأة اللّبنانيّة التي نراها اليوم، تحتلّ المراكز الأولى عالميّاً في الإعلام والفنّ والأزياء والجمال والأناقة والهندسة والمال والطّبّ والتّمريض والأدب، ولا يزال القانون اللّبنانيّ يعدّها درجةً ثانيةً ولا يحميها من عُنف زوجها والمجتمع، وتتحكّم بها ثلاث بنًى ذكوريّةٍ هي الطّائفة والعائلة والدّولة. وتنظر الحكومة هنا إلى النّساء ليس كفردٍ وإنّما من منطلق الوحدة الاجتماعيّة التي يرأسها قريبٌ ذكر. وهذا التّمييز على أساس النّوع الاجتماعيّ أو الجنسيّ، يطغى على مشاركة المرأة في مستوياتٍ عدّةٍ أولّها المستوى السّياسيّ. وعلى كلّ حال، فإنّ التّركيبة الذّكوريّة للعائلة في لبنان، تمتدّ إلى الثّقافة السّياسيّة اللّبنانيّة، أو ما يُسمّى بالأسريّة السّياسيّة. ما خلق نظاماً سياسيّاً وانتخابيّاً معادياً للنّساء والشّباب خارج الطّبقة السّياسيّة الحاكمة. ولا ننسى أنّ الاضطراب السّياسيّ في لبنان وفشل الدّولة في معالجة مسألة حقوق المرأة المدنيّة ومكانتها في المجتمع، من بين قضايا أخرى، أعاق كلّ تطوّرٍ على صعيد إصلاحات التّمييز على أساس النّوع الاجتماعيّ. ودفع ضعف الدّولة المستمرّ والتّاريخيّ والهيكليّ في المجال العامّ بالمنظّمات غير الحكوميّة والجمعيّات الأهليّة إلى السّعي إلى ملء الفراغ الذي تركته الدّولة. هكذا، تحوّلت المنظّمات النّسائيّة اللّبنانيّة من العمل الخيريّ والنّوادي اليساريّة السّياسيّة، إلى صناعةٍ حِرفيّةٍ حقيقيّةٍ مبنيّةٍ على المنظّمات غير الحكوميّة، وصولاً أخيراً إلى ظهور منظّماتٍ أكثر تركيزاً على مطالباتٍ تتعلّق بالحقوق الجنسيّة والجسديّة والهويّات الجندريّة، مثل «كفى».

في صدارة التغيير

بدأ ظهور الحركات النّسائيّة في لبنان، بحسب بحثٍ لـ داليا متري، في أعقاب التّغيّرات التّاريخيّة الكبرى التي شهدها العالم العربيّ بالتّوازي مع نشوء حركاتٍ مماثلةٍ في الغرب. وبلغت المنظّمات النّسائيّة اللّبنانيّة ذروتها بعد انتهاء الحرب الأهليّة اللّبنانيّة. ويُراد للحركات النّسائيّة عادةً أن تكون في صدارة التّغيير الاجتماعيّ التّحرّريّ، لكنّها تواجه في لبنان صعوبةً في التّأثير والتّعبئة وإحداث التّغيير الاجتماعيّ المنشود، وإنْ كانت جمعيّة «كفى» استطاعت في المدّة الأخيرة تغيير المشهد نوعاً ما واستقطاب حوالى 5000 مشاركٍ ومُشاركةٍ في تظاهراتها لرفض العُنف ضدّ المرأة وإقرار قانونٍ يحميها ويحمي أولادها ويمنحهم جنسيّتها.

مقالات قد تثير اهتمامك