موسى وهبه الفيلسوف البوهيميّ والمترجم المؤسِّس... وداعاً

غادرنا قبل ايام علمٌ ثقافيّ لبنانيّ وعربيّ بارز، موسى وهبه. الفيلسوف، ومترجم الفلسفة الى لغتنا العربية، والاكاديميّ من طراز نادر، ومؤسس ملحق الكتب ل"النهار"، والمجلة الفلسفية، ورفيقنا في ادارة تحرير "الحسناء" عدة اعوام. وطبعاً موسى الانسان الصارم على بوهيمية، الحادّ على طراوة، والذي برحيله يخسر المثقفون والمهتمون بالفلسفة صديقاً وباحثاً كبيراً.

"الحسناء" جمعت هنا بعض كلمات في غيابه:

احمد السويسي: حزين حتى الموت

برحيل موسى وهبه اشعر انني فقدت شطراً من عمري، يوم كنا نصنع احلامنا بمكابرة الشباب وإصراره. تعرفت عليه في باريس حين كان يحمل على منكبيه هموم الحركة الطلابية اليسارية. كان الجندي المجهول الذي يعمل وقت يتكاسل الآخرون. ضاحكاً،  متواضعاً، استطاع ان يقيم حبالاً من الود والصداقة مع الكثيرين وبقي على هذه الحال حتى ايامه الاخيرة. التقينا قبل ايام في عزاء زميله وصديقه عادل فاخوري وتعانقنا، كأنه اراد ان يودعني الوداع الاخير. كانت عيناه تحملان حزناً عميقاً، على غير عادته، كأنهما تحدقان في المجهول الآتي. نفسي حزينة حتى الموت.

يبقى ان موسى كان على ايمانه بالمثل الماركسية، بالروح  منها وليس الظاهر الذي فشل. من هنا رأى ان كل حضارة لم تقم على الصراع الطبقي او القومي، الذي هو في اساسه صراع لهيمنة طبقة ما على طبقة مثيلة اخرى، انما هي حضارة نشأت بالصدفة لغياب عوامل الصراع و"المهارشة". ولهذا اعتبر الحضارة العربية والاسلامية ابنة الصدفة.

يقظان التقي: كان سلطة ثقافية ولغوية

اعترف اني كنت اخشاه حيناً، الى ان التقيته منذ سنوات برفقة العزيزة نادين ابو زكي . وقبلها في لقاء اذاعي على هامش نيله جائزة اثناء عمله في "النهار".  رحمه الله كان سلطة ثقافية وسلطة في اللغة وتعبيراتها، وصاحب منهجية فكرية مميزة. كان هناك في زاوية المقهى المديني في بيروت، مع أجندته، وجهاز  تلفون حديث يستخدمه لوحَ كمبيوتر، بهدوئه وكياسته، بقامته وجديته حيوياً جداً. لم افهمه الى الاقصى، موسى وهبه طاقة كامنة وعميقة. رحمه الله.

وسام سعادة: اتذكر ما كتبه مهدي عامل عنه

في القول الفلسفي بالعربية حدثان ترجميان تأسيسيان. موسى وهبه في ترجمته "نقد العقل المحض" لكانط وفتحي المسكيني في ترجمته "الوجود والزمان" لهيدغر. رحل موسى بالأمس. رحل رائد الصنعة: جعل اللغة العربية قابلة للفعل الفلسفي الحديث. اختلف معه في أشياء كثيرة، بدءاً من "كانطه". اعتبرته عالقاً في ذهنية انطوائية لمضمار "الفلسفة" بازاء "تاريخ الفلسفة" كما بازاء "التاريخ الفلسفي".. وبحجة درء "فلسفة التاريخ" والانغماس بـ"الثقافة". وحيّرني "كانطه" هو، لا هو كانط "الكانطية المحدثة" ولا كانط المشتغل عليه هايدغر في "كانط ومشكل الميتافيزيقا" ولا كانط في الفلسفة الفرنسية المعاصرة. لم يرد ان يحصر كانطه "بنظرية معرفة" لكنه لم يرد ان يبعد الانهمام بـ"شرط الامكان" عن "مركزية" نظرية المعرفة. اختلف معه في معظم رؤاه لكني لم أشكّ يوماً منذ أطلعت على أعماله، وتعرفت على شخصه، بأنّه كان الأخطر في صنعته، وكان ربّاً لصنعته على مستوى البلدان الناطقة باللغة العربية ككل في العقود الأخيرة. ابتسم الآن وأنا أتذكر ما كتبه مهدي عامل عنه في "نقد الفكر اليومي". كان قاسياً جداً حسن حمدان مع صديقه، وكانت الحرب اللبنانية معملاً للفكر أمضى موسى قسماً منها يعكف على نقل كانط للعربية. وداعاً موسى وهبه.

محمد علي اليوسفي: استاذي

موسى وهبة! أستاذي في مادة الفلسفة الحديثة، أتخيله ذهبَ يلعب مع الموت.

جوزيف عيساوي: مش فارق معه السرطان

رحل موسى وهبه ذو المهابة وعينَي النسر تنقضّان على الهواء بينكما تحملانك الى ذهنه الصافي وحرارة فؤاده. التقيته الشهر الماضي وكان عائداً من جلسة علاج بالكيمياء في "مستشفى الله، الفرنسي" في الاشرفية. ردّت زوجته وانا اسأله عن صحته: مش فارقة معه. شتمتُ الحياة لا لمواساته. سألت عن كريمته الباحثة في علم الاعصاب وتأسفتُ لاني لم انجب فقال: لا تأسف، الا اذا كنت ستنجب باحثة. اذاً هو موسى يقول حنانه مداورةً منتصب القامة، حادّ النظرات تخترقها احياناً ابتسامة كاستراحات من التحديق في ليل العالم وبؤس الاخلاق. برحيل موسى نخسر باحثاً رزيناً، كما خسرت الجامعة اللبنانية يوماً احد آخر اساتذتها الكبار، الجادين، ليحل على منابرها اساتذة الاستزلام الطائفيّ الزعامتيّ البغيض. انه موسى الباحث والمترجم والمشرف على تنقية العقل العلمي لطلابه من كل "انحياز ادراكيّ" الى السائد من المعارف والقيم من اجل معرفة قشيبة واخلاق او "آداب" تليق بالانسان والمجتمع والحياة نفسها. وداعاً موسى وهبة والى اللقاء في الأديم.

مقالات قد تثير اهتمامك