رفيق علي أحمد: «نعم أتبجّح: مسرحي فريدٌ في العالم»

رفيق علي أحمد: «نعم أتبجّح: مسرحي فريدٌ في العالم»

كتب جوزيف عيساوي:

ساعتان وأكثر مع رفيق علي أحمد في مقهى «الرّوضة»، ملعب خياله ومكتبه اليوميّ قرب صخرة الرّوشة، عن مسرحيّته الأخيرة والنّقد والطّائفيّة والدّين. فبالإضافة إلى مُتعة لقاء رفيق الفنّان والصّديق والحكواتي، لَفَتَني دفاعه عن الرّقابة التي يشكو مبدعون كثيرون حجبها أعمالهم المسرحيّة والسّينمائيّة، وحديثه في آنٍ عن «قطع يد» ناقدٍ وصديقٍ وَصَفَ مسرحيّته «وحشة» بالكيتش، أيْ الذّوق الشّعبيّ التّجاريّ. طبعاً رفيق يقصد القطع الرّمزيّ لليد مقابل ما اعتبره «ديكتاتوريّة» الناقد! وهنا الحوار:

لماذا «وحشة» عن الخيانة الزّوجيّة، هل سئمتَ السّياسة؟

هي وحشة الإنسان في زمننا وخوفه. الجميع مستوحش. رجل المسرحيّة تجرّأ على الانزواء والجلوس في زاويةٍ من شوارع بيروت. أغمضَ عينَيه عن واقعه وانفتحتْ عينٌ ثالثةٌ في قلبه وعقله، راقب النّاس وحكى.

لكن كأنّ أبا ميشال أكثر اهتماماً بالشّخصيّ ضمن الزّواج وخيانة زوجته، أمّا القضايا الأخرى فتحضر ضمن هذا الفضاء؟

إذا أردت فإنّ خيانة الزّوجة هي القشّة التي قصمت ظهر البعير. لكنّ الضّغوط السّياسيّة والاقتصاديّة والنّفسيّة، وهجرة الأبناء وتفكّك العائلة والانقسام الدّاخليّ في المجتمع، كلّ هذا كان يتحمّله أبو ميشال، إلى أن اكتشف خيانة الزّوجة وهجرانها وبيعها منزله. فحمل وتحمّل أكثر من أيّ إنسان.

ثلاث خيانات

إذاً فهي أكثر من خيانة؟

في المسرحيّة خياناتٌ ثلاث. خيانة السّياسيّ لدوره. وتفسير الدّين تفسيراً خاطئاً من رجال الدّين. إضافةً إلى الخيانة الزّوجيّة.

هل تظنّ فعلاً أنّ المشكلة في تفسير الدّين أو الدّين نفسه؟

أؤمن أنّ هناك ديناً واحداً لإلهٍ واحدٍ وإنسانٍ واحد. ولا يمكن أن يكون هناك إلهٌ واحدٌ في أكثر من دين. حتّى الكُتُب السّماويّة، إيماني أنّها الكتاب: «كتاب الله».

ولكنّ الأديان التّوحيديّة يتأسّس واحدها على الآخر ليعود وينفيه؟

هذا من صنع الإنسان.

بل الكُتُب نفسها، صديقي، يُلغي واحدها الآخر بعدما يتأسّس عليه. وكلّ دينٍ يعتبر أنّه الدّين «الصّحيح» والدّين «الكامل»؟!

إيماني المطلق بإلهٍ واحدٍ ودينٍ واحد. وما هذه الأديان والمذاهب المُختلفة إلاّ طقوسٌ لدى البشر نتيجة بيئاتٍ اجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ وتاريخيّة. أؤمن بجوهر الدّين الذي هو محبّةٌ وسلامٌ وحقٌّ وجمال. وأرى أنّ الدّيانات لا تتناقض في هذا الجوهر. لكنّ رجال الدّين يُفسّرونه لمصالحهم ومصالح حلفائهم  السّياسيّين.

أيْ أنّك أقرب إلى الصّوفيّة في نظرتك إلى الله ووحدة الأديان؟

أعتقد في أبي ميشال في المسرحيّة الكثير منّي. ولا أعرف هل هي قناعةٌ أو ردّ فعلٍ على ما يجري في الواقع. يقول أحدهم إنّ للإيمان عيناً وللعقل عيوناً عدّة. لذا علينا أن نُنقد الفكر الدّينيّ شرط الوصول مع المتديّنين والمؤمنين إلى مساحاتٍ مشتركة.

حكواتي قبل الحكواتي

لجهة الشّكل المسرحيّ، هل «وحشة» هي استمرار شكل مسرحيّة «الجرس» التي كتبتها وأخرجها روجيه عسّاف؟

في حياة كلّ فنّانٍ مراحل، حتّى الفنّان التّشكيليّ والشّاعر. منذ كنتُ في الجامعة، وقبل تعرّفي مسرح الحكواتي، كان هذا أسلوبي. وأطروحتي للدّيبلوم كانت حول أسلوب الممثّل المنفرد («وان مان شو»). هناك أسلوبٌ ولكنْ ثمّة تنويعٌ عليه ومن ضمنه. التّجديد في مسرحي هاجسي الدّائم.

كلامٌ غير مسؤولٍ أن يُقــال إنّ فــي كـلّ قريةٍ شبيهــاً برفيق علي أحمد!

هل في «وحشة» تجديدٌ أم عودةٌ لما قبل «الجرس» وقبل فرقة الحكواتي ربّما؟

«وحشة» تجديدٌ في الشّكل والمضمون. إنّها اختزال الدّيكور لصالح الإضاءة فقط. مقعدان خشبيّان فقط على الخشبة في حين أنّ «الجرس» كانت تعجّ بالدّيكورات والأكسسوارات. أزعم، وهذا خاضعٌ للنقاش، إنّي اكتشفتُ أسلوباً جديداً في المسرح العربيّ أو العالميّ. أتبجّح قليلاً وأقول: «في المسرح هناك حكواتي أو راوٍ يروي حكايات. وهناك الممثّل في المسرح الكلاسيكيّ». أزعم أنّي مزجت الحكواتي و الممثّل:  Le conteur - acteur وأعتقد أنّ هذا موجودٌ فقط في مسرحي.

أشكر الأمن العامّ وهو لا يتدخّل إلاّ بطلب السّلطات الدّينيّة!

أليس هذا الأسلوب هو نتاج تجربة «فرقة مسرح الحكواتي» التي كنت أحد أعضائها، وقد اعتبر أحد النّقّاد مسرحيّة «الجرس» تتويجاً لها «وسطواً» مشروعاً أو غير مشروعٍ عليها؟

لا أنكر تأثير «فرقة مسرح الحكواتي» الإيجابيّ على مسرحي. ساهمتْ في تنمية قدراتي وموهبتي، لأنّي معها كنتُ بعدُ طالباً. وهي ساعدتني على اكتشاف أنّني أستطيع الكتابة والمساهمة في الإخراج. كذلك كنتُ ممثّلاً أساسيّاً في الفرقة. فكيف أسطو على هذه التّجربة وكان شبابها قد تفرّقوا «أيدي سبأ»؟

ويضيف: «فرقة الحكواتي تألّفت من مجموعة ممثّلين بأسلوب مسرح الحكواتي التي عرفها النّاس من خلاله. وأنا حين قدّمت هذا المسرح بممثّلٍ منفرد، أليست هذه إضافةً إلى مسرح الحكواتي والمسرح العربيّ بعامّة؟».

الحروب مطامع يغلّفونها بشعاراتٍ وطنيّة أو دينيّة
تكسير أيدي عبّاس!

تراوحت ردود الفعل على «وحشة» بين الإيجابيّ والسّلبيّ، ولَفَتَ مقالٌ للزّميل الكاتب والشّاعر عبّاس بيضون الذي اعتبر أنّ مسرحك يتحدّر من المسلّواتي المعروف في القرى مع إضافة بُنيةٍ له وشكلٍ صنعتَه أنت. وفهمتُ أنّك مستاءٌ من المقال، فلماذا؟

نُميَ إليّ أن الشّاعر سعيد عقل قال لعباس: «بتقول عن صور  خان المسافرين يا عبّاس؟ صور خان يا عبّاس؟ بدّك تكسير أيدين عاهالحكي». وأكتفي بهذا.

وأنت تريد تكسير أيدي عبّاس بدورك؟

أنا أكسر يدَي مَن يريد تكسير يدَي عبّاس. فهو شاعرٌ كبيرٌ أقدّره وأحبّه من قلبي. لكن كنتُ أودّ لو عاد إلى مقالته عن مسرحيّتي «جرصة» التي عَنْونها: «ماذا كان سيقول جوزيف سماحة عن مسرحيّة رفيق علي أحمد؟».

 ربّما اختلف رأيه وتقييمه بين «جرصة» و«وحشة» وهذا حقّ.

لا، هو كَتَب عن مسرحي في مقاله الأخير  وليس عن المسرحيّة الأخيرة فقط. وعتبي عليه وأسفي أنّ هذا الشّاعر والكاتب الكبير يقول رأيه ويختم مقالته عنّي كمسلَّواتي يُضحك النّاس كأولاد الضِّيع وأنّ مسرحي مسرح كيتش ليُضيف: «ولا شيء غير هذا». فلماذا يُقفل باب النّقاش ويُلغي الحوار ويكون ديكتاتوراً قمعيّاً؟

هل أرسلت أو أرسل سواك ردّاً ولم ينشره لتعتبره ديكتاتوريّاً؟

طوال حياتي لم أردّ على صحافيّ. أنا مع كلّ رأي.

 إذا كنت مع حريّة الرّأي فلماذا أنت زَعلان؟

لأنّه أنهى مقالته بعبارة «لا شيء غير هذا».

 أيْ بسبب كلمة زَعلان؟

كلمة؟ و«في البدء كانت الكلمة» (يضحك). ويضيف: «نعم، مسرحي شعبيٌّ عن الفقراء والمهمّشين والثّقيلي الأحمال، لا أنكر ارتباط مسرحي بالشّعب بالمفهوم الإيجابيّ وليس التّجاريّ. ولكنْ في مسرحي بنيةٌ وتركيب شخصيّاتٍ و125 بروجيكتوراً، فيه كلّ مقوّمات المسرح المعاصر. لذا فأنْ يُقال إنّ في كلّ قريةٍ شبيهاً برفيق علي أحمد، كلامٌ غير مسؤول».

مسرحيّ كلّ الأساليب

 إذا كان اعتبار بيضون مسرحك مبنيّاً على الكتيش، أيْ الذّوق الشّعبيّ الاستهلاكيّ، بعد أن تُعيد صياغته أنت، فإنّ مسرح داريو فو حائز نوبل قائمٌ بدوره على التّهريج الذي هو فنٌّ شعبيٌّ قبل أن يُعيد فو تدويره. فلماذا يزعجك الكيتش؟

هل في كلّ قريةٍ في إيطاليا «مسلّواتي» مثل داريو فو؟ بالتّأكيد لا. لقد حوّل فو التّهريج على طريقته إلى فنٍّ راقٍ. أنا أيضاً حِرَفيٌّ أركّب عملي المسرحيّ كفنّان. لا أفكّر خلال التّمثيل أأنا على طريقة برشت أو ستانسلافسكي، وحين أُضحك لا أخشى أن أغرف من الشّانسونييه، وحين أربط المَشَاهد أنا حكواتيّ. أدّعي بلا خوفٍ أنّ كلّ هذه الأساليب موجودةٌ في مسرحي.

أعضاء فرقة مسرح الحكواتي تفرقوا وأنا لم أسرق التجربة
الدّين والسّياسة والموت

في المسرحية تقول منتقداً عبارة: «ماتوا في سبيل الوطن، ماتوا في سبيل الله» ماذا تقصد؟

أتحدّث عن الحرب الدّاخليّة في زواريب المدن معتبراً أنّها بسبب ثلاثة أحرف: ط – م – ع. الطّمع: الماديّ، السّياسيّ، السّيطرة. ولكنّهم يُغلّفونها بشعاراتٍ وطنيّةٍ تارةً ودينيّةٍ تارةً أخرى.

هل ينطبق هذا على الحروب في سوريا والعراق واليمن وليبيا ومصر؟

أيّ حربٍ داخليّةٍ ذات صبغةٍ طائفيّةٍ مذهبيّةٍ أنا ضدّها.

ماذا تقصد بداخليّة؟

عندما يكون هناك عدوٌّ خارجيٌّ فالطّبيعيّ أن تحارب دولٌ ضدّ دول. لكن عندما تكون حرباً داخليّةً فئويّة، طائفيّة، مذهبيّة، حتّى أهالي المغلوب على أمرهم الذين يستشهدون هم ضدّ هذه الحرب. الحرب مشروعةٌ من أجل الوجود في وجه عدوٍّ خارجيٍّ.

هل تعتبر ما يجري في ما سُمّي بدول الرّبيع العربيّ حروباً طائفيّة؟

طبعاً، نتائجها حروبٌ طائفيّةٌ ومذهبيّة. ولكن إذا شئت هي حربٌ عالميّةٌ تدور برحاها على أرضنا وناسنا وشعبنا. وأقول في مسرحيّتي إنّ كلّ هذا القتل هو بسبب الطّمع والرّغبة في السّيطرة على ثرواتنا وتدمير التّنوّع المجتمعيّ في بلادنا.

هل عانيت مع الرّقيب أم مرّت  الأمور  بسلام؟

الرّقيب السّياسيّ أو الأمنيّ ليس أكثر منّي حِرصاً على أمن المجتمع وسلامة أخلاقه. لم أعرف يوماً مشكلةً مع الرّقابة بالرّغم من جرأة أفكاري في المسرح. ودائماً كنتُ أصل مع الأمن العامّ اللّبنانيّ إلى قاسمٍ مشترك، كتبديل كلمةٍ بأخرى، أو تدوير بعض الزّوايا من دون المساس بجوهر الفكرة، وأشكرهم على هذا. مثلاً الرّقابة اللّبنانيّة سمحت أخيراً بفيلم ريدلي سكوت «نوح» مع طلب الإشارة قبل الفيلم إلى أنّه ليس من وجهة نظرٍ دينيّةٍ بل وجهة نظر المُخرج.

أليس هذا بحدّ ذاته تدخّلاً باعتبار المُشاهد قاصراً عن معرفة أنّه رأي المخرج وقراءته للرّواية الدّينيّة؟

لا. والأمن العامّ لا يتدخّل إلاّ بطلبٍ من السّلطات الدّينيّة في لبنان.

بهذا المعنى أليس تسليم الرّقابة للمؤسّسات الدّينيّة إنّما يمنع أيّ نقدٍ للنّظام الطّائفيّ اللّبنانيّ بهدف تأبيده؟

مسرحيّتي كلّها نقدٌ لهذا النّظام وأسمّي الأشياء بأسمائها: مسلم، مسيحيّ، سنّيّ، شيعيّ. المعيار هو أنْ تنتقد الطّائفيّة من أجل هدف: وحدة الإنسان والمجتمع، وليس تجريح فئةٍ أو مجموعةٍ من النّاس. لستُ مع الرّقابة ولا أرى ضرورةً لها مُسبقاً على الأعمال الفنّيّة والأدبيّة ولكن يمكن أن يتدخّل القضاء لاحقاً إذا تقدّم النّاس بشكوى.

ويُنهي: «لطالما كانت بيروت ولا تزال حاضن كلّ الأفكار المعارضة في العالم العربيّ، بالرّغم من كلّ الظّروف. حتّى الرّقابة حين تُصلت سيفها، كما حصل في السّبعينيّات مع مسرحيّة «مجدلون»، فإنّ إعادة تقديمها في الشّارع خَلَقَ جوّاً معيّناً إيجابيّاً».

الشهداء وأهلهم مغلوب على أمرهم

أخيراً هل تتوقّع عروضاً كثيرةً لـ «وحشة»؟

أنا رجلٌ غير منظّمٍ وأعمل مسرحاً بحسب المزاج. أقدّم ما تيسّر من العروض حسب ما تسمح لي الصّالة حيث أعرض. «وحشة» تقتضي مسارحَ مجهّزةً وليس كما كنت أفعل مع أعمالٍ سابقةٍ في ساحات القرى ومسارحَ صغيرة. بعد عرضَين في الكازينو سأقدّم العمل في عددٍ من الجامعات.

صوفيّة

بالنّسبة إلى قفلة العمل، تختفي عن المسرح ويأتي برقٌ ورعدٌ فيشعر مَن شاهد العمل أنّ أبا ميشال صار في السّماء. كأنّهه تسليمٌ صوفيٌّ حيث لم يبقَ للعبد الفقير سوى السّماء ملجأً؟

بعد مشهد «الرّقوة» أتثاءب كما يفعل مَن «يرقي» مريضاً متألّماً وأقول: «بجاه الله، وموسى، والمسيح، ومحمّد، ولاوتسو، وكونفوشيوس، وبوذا، وسقراط، وأخناتون، وأفلاطون، وكلّ الأوادم اللّي مرقوا عاهالديني...». أنا من كلّ هؤلاء، ولهم جميعاً روحٌ واحدة. 

مقالات قد تثير اهتمامك