«أمّـي لسـتِ ملاكـي»؟
«أمّـي لسـتِ ملاكـي»؟
«أمّـي لسـتِ ملاكـي»؟

«أمّـي لسـتِ ملاكـي»؟

كتب جوزيف عيساوي:

هل الأمّ دوماً ذلك الحضن الدّافئ أم ثمّة أبناءٌ وبناتٌ لا ينظرون إلى أمّهاتهم نظرة مودّةٍ وامتنان؟ هكذا انطلقتُ بهذا التّحقيق طارحاً السّؤال: أحقّاً تقول/ تقولين: «أمّي يا ملاكي»؟ أم تراها ليست ملاكاً؟
توجّهتُ بالسّؤال إلى شاعرٍ ومخرجةٍ وروائيَّين ورسّامَين من لبنان وسوريا. وهذه أجوبتهم:

عبده وازن:
امرأة لا تُشبه أمّي

عبده وازن: مات والدي ومعه سرّ جسد أمّي

حضور الأمّ في حياة الإنسان لا حدود له، سلباً وإيجاباً. أعرف رجالاً أحبّوا أمّهاتهم حبّاً مَرَضِيّاً. بعضهم لم يستطع أن يتزوّج من شدّة سيطرة جسد أمّه وروحها عليه. أرى رجلاً في الخمسين من عمره ينام ليلاً قرب أمّه وأحياناً في سريرٍ واحدٍ هو سرير الزّوجيّة. شخصيّاً لم تعنِ لي أمّي شيئاً على هذا المستوى. أصلاً لم أعرف أبي كما يجب كي أتلبّس دور أوديب. مات الأب باكراً وحمل معه سرّ جسد الامرأة التي هي أمّي. أحبّ أمّي كما كنتُ أحبّ مريم العذراء، بل أنّني لم أستطع أن أحبّ مريم إلاّ بصفتها أمّاً ليسوع. أمّاً حقيقيّةً وزوجها يدعى يوسف. أتذكّر كيف اختار المخرج بازوليني أمّه لتؤدّي دور مريم العذراء في فيلمه الشّهير عن يسوع المسيح، وشاءها أن تبدو عجوزاً وغير جميلة، بل بعيدة عن الجمال الإلهيّ الذي أحاط بصور مريم في الكنيسة. كانت علاقة بازوليني بأمّه علاقةً قويّةً ومَرَضيّة. وله قولٌ رهيبٌ في هذا الصّدد مفاده أنّ القاتل لو فكّر في أنّ الشّخص الذي سيقتله له أمٌّ ستبكيه فهو لن يُقدم على فعل القتل.
شخصيّاً أقول أيضاً أنّني كنتُ دوماً أبحث عن امرأةٍ لا تُشبه أمّي البتّة. أمّي أشبه بقدّيسةٍ حتّى إن ارتكبت خطايا بيضاء. أمّا أنا فلم أبحث إلاّ عن امرأةٍ تناقضها.

رشا الأمير: مسيح
وليست ملاكاً

رشا الأمير: أحمّــلهــــا مسؤوليّــــة عـــدم زواجــي ممّــن أحــببت

أمّي كلّ شيء بما أنّ والدي كان الغائب المُنشغل بالسياسة. سلّمها زمامنا، وهي سلمى، وهي الغريبة عن لبنان الآتية من مصر. أمّ غريبة عن البلد، المدرسة، المجتمع، وهي المتعلّقة بمصريّتها وجملة هويّاتها: المرأة المتمرّدة. ابنة المدينة، القاهرة، التي اقترنت برجلٍ قرويّ من حارة حريك. حتّى بيروت ماذا كانت يومها، أواسط السّتينيّات، قياساً إلى مدينة كالقاهرة؟ أضف هويّة من هويّاتها: «شوام مصر» إذ والدها من أصلٍ سوريّ والوالدة من أصولٍ لبنانيّة وقد تركا لبنان مع مَن غادره بعد مذابح العام 1860.

لطالما كانت هي كلّ شيء من اقتيادنا صباحاً إلى المدرسة، إلى الاهتمام بدروسنا وأمورنا كافّة. اهتمام بروتستاني يجتاحنا إلى حدٍّ كنّا نتساءل: لِمَ هي أمّ كاملة، حتّى في اللّعب معنا أو تعليمنا إدمان القراءة، لكي نصل إلى «الكمال» كما تعلّمته في أنجيلها؟

الجنرال أمي

وكان هذا المسعى منّا للكمال والنظام ممّا أرهقنا. ولطالما أسميتها بــ «الجنرال». كأنّ البيت كان معسكراً فكرهنا النظام وغدونا فوضويّين على هذا الحبّ الخانق. طبعاً لم أشأ أن أشبه أمّي، وهي التي كأمّهات الستينيّات شاءت أن تكون أمّاً وزوجةً ومُربية، وقد دفعت ثمناً من بُعدها الجماليّ والإغوائيّ.

أفشلتْ زواجي

وتقول الأمير: أحمّلها مسؤوليّة عدم زواجي من حبّي الأوّل، إذ نشأ صراعٌ معها ومع والدي. فلماذا أصرّا على الدّفاع عن قيمة العلم وكنتُ في سنّي العشرين. فلربما قِيَم الجنس والحبّ والأولاد كانت أولى لي من العلم. من قال لهما إنّني سأعثر على حبٍّ أفضل ورجلٍ أفضل. وفي الواقع لم أعثر. ندمتُ على أنّها رجّحت في حياتي العلم كقيمةٍ على الحبّ والزّواج، إذ للمرأة حياةٌ بيولوجيّةٌ محدّدة: الزّواج والإنجاب ثمّ حياةٌ مهنيّة.

لم أشأ وقتها أن أكون المرأة المتحرّرة. هي المرأة التّقليديّة مع والدي أرادتني حرّة، أنا مَن اختارت الزّواج من الحبيب الأوّل. كان هذا أحد الصّراعات مع عائلةٍ تعيش طوباويّةً لا علاقة لها بالواقع والاجتماع. وتضيف: ما من أمٍّ تُشبه الأخرى. وأظنّني لو صرت الأمّ لفعلت كوالدتي وظلمتُ أولادي. كلّ الأهل يربّون على قيِمٍ لا تُشبه الواقع.

أحتاج نقاءها

لا، لم تكن أمّي ملاكاً بل امرأةً محافظةً ساعيةً إلى الكمال. لم تكن ثوريّةً بالرّغم من تحدّيها وتركها وطناً وزواجها من غير دينها. اليوم أحتاجها، أحتاج من ينتظرني ويكون نقيّاً بلا حساب. لكن، مع هذا، لا أقول مع الشّاعر «ولم تزل يداكِ أرجوحتي ولم أزلْ ولد».

أحمد علي الزين:
حدْس الأمهات

أحمد علي الزين: علّمتنـي الخــطّ العــربيّ واكتشفــتُ لاحقـــاً أنّهـــا أميّـــة

عندما يرحل الأهل ننكشف أمام الموت، هكذا شعرت وكتبت على صفحتي في فايسبوك في عيد الأمّ.
صيف العام 2001 رحلت والدتي، أنا أحد أولاد الأرياف البعيدة ممّن علاقتهم مع أمّهاتهم متينةٌ في الغالب.
أحبّتني أمّي حبّاً كبيراً. بقيت حتّى سنّي السّادسة في حضنها ورضعت من صدرها أربعة أعوام، كما دأبتْ على القول. كنت أثناء دراستي في بيروت أعود من زياراتي للبيت العائليّ بـ «زوّادة»، ولم يكن بمستطاعي أن أرمي الكيس حين يفرغ لأنّه منها.
نحن أبناء ريف خمسينيّات القرن الماضي كم تشبه علاقتنا بأهلنا علاقة الأغصان بالشّجرة وهذه بالأرض. بل كم تشبه علاقتنا بهم علاقتنا بالفصول. إنّه الواقع وليس شعراً.

أعطتني الكرامة

مع والدي كان الصّمت أعمق أثراً فيّ من حواراتي مع الوالدة. صمته البليغ مَنَحني البُعد الرّوحيّ. أمّا أمّي فمنحتني الكرامة جرّاء تأنيبها إيّاي بعد كلّ حماقةٍ من حماقات الأولاد كسرقة الجنارك مثلاً. كذلك ربّتني وعلّمتني الخطّ العربيّ ممسكةً بيدي لأكتب الألف مستقيمةً والباء منحنيةً والنّون حسب موقعها في الكلمة. ولطالما ظننتُها تُجيد الكتابة والقراءة قبل أن أكتشف أنّها أمّيّة. وكانت تغنّي في السّهرات بصوتها الجميل. وهي من حمل أوّل مذياعٍ إلى قريتنا، عكّار العتيقة، وكان الأهل والجيران يجتمعون حوله كلّ أوّل جمعة من الشّهر يستمعون إلى حفل أمّ كلثوم ويطربون له. ولعل دخولي لاحقاً مجال الإذاعة أوّلاً ثمّ التّلفزيون وثيق الصّلة بعلاقة والدتي مع المذياع وحبّها فنّ الغناء.
ويقول الزّين: علّمتني أمّي الحنان من سلوكها فقط، لأن الحنان لا يُعَلَّم إلاّ بالقدوة. تسألني الآن عن النّقص في علاقتنا وأنا بعد غيابها لا أستطيع أن أرى سوى الفردوس فيها.
أنهي، يقول الزّين، بالحادثة التّالية: يوم خُطفت أثناء الحرب أُدركتْ أنّني في خطر. لحظة كنتُ أُضرَب من المسلّحين كانت هي تتضرّع إلى الله أن ينقذني من المأزق. إنّه حدس الأمهات.

عايدة صبرا:
نقصان في بعض المسائل النسائيّة

عايدة صبرا: حياؤها وأميّتها جعلاها لا تأخذ بيدي

في سنّي السّابعة قرّرت دراسة الباليه، فلقيت اعتراض والدي إذ من الممكن أن أصبح «رقّاصة». لكنّ أمي لم تأبه وقادتني إلى صفوف الرّقص. وكانت تصطحبني، هي الأمّيّة، إلى مسرحيّات نبيه أبو الحسن وزياد الرّحباني وحتّى إلى بعض المسرح الحديث الذي يقودها إليه الجوّ العامّ في البلد، مرحلة السّبعينيّات. ولأنّ لي أخاً مُصاباً بداء الصّرع فقد صبّت جلّ اهتمامها عليه. كان أشبه بدراما حياتها. ولم يجعلني هذا أشعر بانتقاصٍ منها. ما أحسست بنقصانه هو بعض المسائل النّسائيّة التي كنت في حاجةٍ ماسّةٍ إلى من يأخذ بيدي لأفهمها: العادة الشّهريّة، أو أمور الزّواج وعلاقة الثّنائيّ ومعنى المسؤوليّة واكتشاف المرأة لجسمها. كلّ تلك الأمور المطلوبة منها وحرماني منها تُحزنني وأقول ربّما حياؤها أو إخفاؤها مشاعرها، حزناً أو فرحاً، في علاقتها مع والدي، إضافةً إلى أميّتها، كانت وراء أنّها لم تأخذ بيدي. لكن يُمكنني القول إنّ تخبئتها مشاعرها نحوي كانت أمراً ترك نقصاً في علاقتنا إذ لطالما وددتُ قُرباً أكبر منها.

رعب العادة الشهريّة

وتضيف: أكثر ما تعلّمته من أمّي، وحتّى اليوم بالرّغم من تقدّمها في العمر، حبّها للحياة. كذلك حبّها لشيءٍ كالطّموح إلى أمرٍ ما، بالرّغم من أنّ أكثر ما فعلته كان الزّواج وسرعان ما ظهر أخي ومرضه، ثمّ وفاته عن عمر 29 عاماً نتيجة أزمةٍ قلبيّة. هذا بالإضافة إلى إجهاضاتها واهتمامها مع والدي بتربيتنا.
وتنتهي صبرا إلى القول: لم أتصارح وإيّاها يوماً في ما أزعجني لأنّي مثلها تنقصني موهبة أن أفتح الموضوع، علماً أنّها لم تؤذِني في شأنٍ كبيرٍ واحدٍ.

عامر الشاعر:
شجرةٌ من لحم

عامر الشاعر: ما أراه بعينيّ تراه أمي بكفّ يدها

أخاف وأنا أكتب عن أمّي أن أختصر حضورها كامرأةٍ بوظيفتها البيولوجيّة، الأمومة، في مجتمعٍ بطريركيٍّ لم ينصف المرأة في أحسن حالاته. والآن إذ أكتب تاريخها أجدني أكتب تاريخَ الطّبيعة كلِّها، كأنّها شجرة من لحم، وأكتب عن الأمكنة التي احتضنتنا، فلا أعي معرفتي الطّبيعة والأشياء من حولي منفصلةً عنها. علاقتنا حسيّةٌ مباشرةٌ فلا رموز ولا إشارات، يتبدّى الواقع فيها بوضوحه وغموضه. أمّي لا تعرف القراءة والكتابة. سمعت أوّل الحكايا منها، وكنتُ دوماً أطلب منها أن تحكي لي حكايةً بطلها ضبعٌ وطفلٌ ترسله أمّه في ليلةٍ مثلجةٍ إلى بيت الجيران حاملاً الزّلابية. في هذه العوالم الجبليّة في الجنوب السّوري كبرْتُ، ثمّ انتقلت لدراسة الرّسم في دمشق، فبدأتُ أبتعد عن البيت أكثر فأكثر.

وجه أمّي كان أوّل الوجوه التي رسمتها بالألوان الزّيتيّة. بعد سنواتٍ قليلةٍ غاب الوادي الذي كان يدفق مع ذوبان الثّلج في الرّبيع، وتغيّرت جغرافيا الأمكنة وضاقَ كلُّ شيء. تغيّرت أنا أيضاً. أصبحت مفاهيمي أكثر تجريداً، وبدأ اهتمامي يزداد باللاّمرئيّ والغامض، فكان لابدّ من لسانٍ جديدٍ يسخر من كلّ شيءٍ ويتساءل إثر انهيار كلِّ يقين، إلى أن هاجرت بما يشبه النّفي الاختياريّ وها قد مرّت خمسة أعوامٍ لم أرَها فيها. ربّما أخذت عن أمّي هذا «الحسّ الفجائعيّ» بالحياة وأيضاً الرّغبة الجارفة في الحياة والسّفر والمغامرة كي أرى أكثر. لكن ما أراه بعيني تراه أمّي بكفِّ يدها.

أحمد شعبان:
لم اسكن قلبها

أحمد شعبان: لا أحد منّا سيمشي في جنازة الآخر

«أصلاً مين بدو يتطلّع فيك مين بدو يتزوّجك، مو معروف إذا كنت ولد أو بنت». هي الإهانة الأكبر وقد وُجّهت إليّ وكانت من ستّ الحبايب، ماما. اليوم أجدني سعيداً جدّاً أنّ كلّ واحدٍ منّا بعيدٌ عن الآخر آلاف الكيلومترات، وقد اختفت تماماً من أحلامي وكوابيسي. يُمكنني في الوقت عينه تخيّلها محاطةً بأبناءٍ قد يؤلّهونها ذات يوم. لذا لا أكترث كثيراً للأمر. أما الهديّة الأجمل فقد قدّمتها لها ذات عيد أمّ، بدون أن أقصد، لتفاجئها بمشهدٍ إباحيٍّ لمثليّين على آيبادي الخاصّ. لا أزال أتذّكر صرختها والحال الهستيريّة التي أصابتها. ضربةٌ كهذه تطردك من قلبٍ يسع القلوب كلّها للأبد. قلبٌ أتساءل إن كنتُ قد سكنتُه في أحد الأيّام. وينهي شعبان نقمته بالقول إنّ إحدى الحقائق المؤكّدة في هذه الحياة أنّ لا أحد منّا يرغب في المشي في جنازة الآخر أو زيارة قبره.

مقالات قد تثير اهتمامك