زينب عبـد الـرازق تحـكي أحوال سوق الفنّ في المغرب

إنّ سوق الفنّ غريبةٌ بعض الشّيء وملتبسةٌ إلى حدٍّ ما: فهي تجمع الباعة الصّغار وأصحاب قاعات العرض المخضرمين وآخرين يفتتحون مصلحةً معيّنةً كهوايةٍ عابرة. لذا إنّ هذه السّوق مبنيّةٌ على استراتيجيّةٍ أو هيكليّةٍ متينة.

هذه السّوق الفنّ اكتسبت زخماً يُعدّ بادرةً سياسيّةً فعليّة. وهو زخمٌ لا سابق له أو بأفضل الحالات سوابقه محدودةٌ جدّاً. إنّه زخمٌ شبهُ ملكيّ. فالمَلِك محمّد السّادس يُحبّ الفنّانين ويُكرّمهم. وهو بحدّ ذاته جامعٌ كبيرٌ للأعمال الفنّيّة، ما أعطى انطلاقةً جديدةً للفنّ وخَلَق مِثالاً يُحتذى به. ولطالما لعبت المصارف دوراً مُناصراً لإطلاق هذه السّوق وتعزيز حركة الشّراء بخاصّة.

أزمةٌ فنّيّة

بالإضافة إلى الشّارين الصّغار الموسميّين، هناك مَن يشتري معرفةً منه بأنّ في أوروبا كما في غيرها من مناطق العالم، الاستثمار في عالم الفنّ هو استثمارٌ في القِيَم الآمنة. ولكن بعد هذه الانطلاقة التي تعود إلى نهاية القرن الواحد والعشرين، اندلعت الأزمة. فبدّل النّاس آراءهم وأصبحت الأعمال الفنّية تُكلّف أكثر فأكثر. وقد حلّت مرحلةٌ كان يتمّ فيها المُراهنة على فنّانٍ ما والاستثمار لإطلاقه. عن تلك المرحلة تقول الفنّانة زينب عبد الرّازق الشّريكة المؤسّسة لمؤسّسة «شريبي - عبد الرّازق»: «مَرَرنا بأعوامٍ صعبةٍ منذ العام 2008 استمرّت حتّى قبل سنةٍ أو سنتَين. جمودٌ تامٌّ وتوقفٌ كلّيٌّ لأيّ عمليّة بيع. وقد برزت آنذاك ظاهرةٌ أخرى تضرّ بالعمل الفنّيّ: تكاثر الأعمال المقلّدة المزيّفة والسّرقة والفرار من العدالة وغياب أيّ إطارٍ قانونيٍّ محدّد. حاليّاً تسعى بعض المؤسّسات إلى إرساء قوانين حمايةٍ للدّفاع عن حقوق الفنّان والمُشتري. إذاً نتّجه نحو تحسّنٍ بسيطٍ في هذا المجال».

يجب توجيه السّوق إلى أفريقيا والشرق الأوسط

اللّجوء إلى الشّرق وأفريقيا...

تتميّز سوق الفنّ أيضاً بأنّها سوقٌ صغيرةٌ لا تُحقّق أرباحاً وفيرةً نسبةً إلى ما تجنيه السّوق في مجالاتٍ أخرى. لذا «يتعيّن علينا بناء سوقنا الخاصّة آخذين في الحسبان التّحدّيات الحاليّة»؛ توضح زينب مُضيفة: «نحن نعي أنّه لا يُمكننا الاستعانة بأوروبا إلى ما لا نهاية. فأوروبا لديها فضاءاتها ومعاييرها الخاصّة وعالمها الذي تديره. بمَ يُفيدنا أن نُطلق فنّاناً أو اثنَين في أوروبا؟ يجب أن يتحوّل التّركيز إلى الشّرق وأفريقيا. فاستحداث قاعات عرضٍ عدّةٍ في الشّرق الأوسط وانتشار علامات الـ «لوفر» وتوسّع العلاقات الدّيبلوماسيّة التي تربط سكّان الشّرق وأفريقيا بالمغرب، جميعها عناصرُ تُشير إلى أنّه يجب توجيه السّوق إلى هاتَين المنطقتَين».

الاستثمار في الجنوب أوّلاً

لقد كانت أفريقيا مرجعاً للفنون التّشكيليّة الدّوليّة. وحدث تحوّلٌ من الفنّ التّصويريّ إلى النّمنمة المعاصرة مرّ أوّلاً بمرحلة اكتشاف أفريقيا واكتشاف الأقنعة والإشارات والتّقاليد. كلّ هذه العناصر أثْرَت العمل الفنيّ المُعاصر. إذاً هناك توعيةٌ مُسبقةٌ من هذه النّاحية، وهي تتمثّل بالانتماء إلى تراثٍ مشترك، وهذا مهمٌّ للغاية. هنا تؤكّد زينب أنّ «نسج المغرب لهذه العلاقات مع أفريقيا وعلى الصّعيد الدّبلوماسيّ يوفّر له من دون شكٍّ تذكرة الدّخول إلى أفريقيا. فإنّ المستقبل ليس في التّشبّث دوماً بالأحلام البعيدة المنال وإنّما في الاستثمار في الجنوب والتّحصّن جيّداً قبل ولوج الشّرق. هذه باختصارٍ سوق الفنّ. وهي ليست سوقاً مزدهرةً جدّاً. حتّى إنْ كان عدد الفنّانين لا ينفكّ يرتفع وقاعات العرض تفتح أبوابها، تبرز حاجةٌ ملحّةٌ إلى إعادة هيكلتها، إلى خلق فرصٍ للقراءة وتدريب النّقّاد والعمل على توعيةٍ أكثر تخصّصاً بالفنّ. جميع هذه العناصر تُمكّن من بلورة العمل الفنّيّ وإعطائه مصداقيّةً واجتذاب الزّبائن الّذين قد لا يكونون بالضّرورة جامعين لأعمالٍ فنّيّةٍ وإنّما هم زبائن مولعون بالفنّ فقط. وبهذه الطّريقة فقط يمكننا ضمان وصولٍ أفضل إلى السّوق بصورةٍ أكثر ديمقراطيّةً وعقلانيّة، وربّما ديناميكيّة».

بمَ يُفيدنا أن نُطلق فنّاناً أو اثنَين في أوروبا؟

مرجعيّةٌ لكلّ الأعمال الفنّيّة

في أفريقيا الشّماليّة، يتمتّع المغرب بموقعٍ استراتيجيٍّ عند ملتقى طرقٍ مقارنةً مع الجزائر وتونس وليبيا حتّى مصر. ويُعدّ المغرب بلداً منفتحاً إلى أقصى الحدود، وبحسب زينب يعود هذا الانفتاح إلى الموقع، والأناس الدّيناميكيّين جدّاً في المملكة، واستقرار السّلطة أيضاً. وتستطرد قائلة: «يحتلّ المغرب مكانةً جيّدة. أخيراً دُشِّن معرضٌ جديدٌ في المغرب، سيكون مرجعيّةً لأعمال الفنّ عندنا وفي الخارج. والفنّانون مدعوّون إليه من كلّ حدبٍ وصوبٍ ومن جنسيّاتٍ مختلفة. بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وضعنا كلّ شيءٍ في رزمةٍ واحدة. بالكاد كان بإمكان فنّانٍ مغربيٍّ الولوج إلى أوروبا أو الولايات المتّحدة الأميركيّة. فلمَ يكترثون هناك لفنّانٍ مغربيّ؟ فقلنا لأنفسنا: فعل الخير يبدأ مع الذّات. والآن تبرز ظاهرةٌ جديدةٌ إنّما بالعكس، فمع الفورة السّياحيّة في بعض المدن، يأتي الكثير من الغرباء لخلق مجالاتٍ لهم عندنا ويكتسبون مباشرةً المصداقيّة».

توعية الأطفال

«إنّ توعية الأطفال حول الفنّ هو أمرٌ مهمٌّ جدّاً. فهي تسمح بتدريب جيل الغد الذي سيحمل الشّعلة بعدنا. وأفضل مؤشّرٍ على تطوّر بلدٍ ما هو عندما ينجح الأخير بتوليد عددٍ معيّنٍ من الفنّانين». تقول زينب مُضيفة: «الفنّانون هم الأبطال الذين يحملون راية البلد الذي صدّرهم. ولذلك فتح خليل شريبي هذا المجال أمام أطفال المدارس. فهو ينظّم كلّ سنةٍ في مؤسّسته «شريبي - عبد الرّازق» دورات توعيةٍ حول موضوعٍ معيّن، ثمّ يُطلب من أطفالٍ في الصّفوف الابتدائيّة أو حتّى من الصّغار خلق شخصيّاتهم بناءً على ما رأَوه. يتمتّع الأطفال بقدرةٍ على الولوج إلى جميع المعدّات، ويتمّ تنظيم معرضٍ لهم وتقييم عملهم. بعدها، يتمّ عرض الإنجازات في قاعةٍ خاصّةٍ ليراها الأهل، فتُثمَّن وتُعطى قيمة. جميع هذه العناصر على المستوى العاطفيّ هي بنّاءةٌ جدّاً للشّخصيّة. بطبيعة الحال، هو عملٌ يتطلّب الكثير من الجهود وهو استثمارٌ مادّيٌّ بالغ الأهميّة. حتّى الآن، تمّت تغطية المدارس الخاصّة، ونأمل أن تعدّ المدارس الرّسميّة نفسها معنيّةً بهذه التّجربة. حاولنا توعية الأشخاص في مكان عملهم، أيْ الصّناعيّين. ويجب تعميم هذه التّجربة. من المهمّ محاولة الاستفادة إلى أقصى حدٍّ مُمكنٍ من الوقت الذي يُترك فيه الأطفال لإطلاق العنان لذواتهم ولا يكون لديهم واجباتٌ تُذكر. فهو وقت متعةٍ بنّاءةٍ جدّاً».

نشر كتب الفنّ...

وتُتابع زينب: «حاولنا بدايةً في مؤسّسة «شريبي - عبد الرّازق» نشر دراساتٍ وافيةٍ (كرّاسات صغيرة) بأسعارٍ متدنّية. هذه الدّراسات كانت حول رسّامينا المنتقلين إلى العالم الآخر. لقد أردنا بواسطتها الحفاظ على تراثنا وذاكرتنا، وقد نشرنا 11 منها. وأحياناً ننشر كتباً جميلةً أيضاً. ولكنّها تتطلّب جهوداً جمّة. وحاليّاً، أصبح المعنيّون بالشّؤون الثّقافيّة يُشجّعون أكثر بقليلٍ هذه المنشورات ويدعمونها، على عكس ما كان سائداً من قبل. لوزارة الشّؤون الثّقافيّة مجالان: واحدٌ في حرم الوزارة والآخر خارجها. وهي تستثمر بدورها في الفنّ، ممّا حرّك الأمور قليلاً. فلا يمرّ أيّ معرضٍ بدون تغطيةٍ إعلاميّةٍ ولو صغيرة. وهذه خطوةٌ مهمّة».

كان لبنان بوّابةً لنا نحن الذين لم يكن بإمكاننا التّوجّه إليه

لبنان ملتقى الثّقافات

وعند سؤالها عن رأيها بالفنّ في لبنان، قالت زينب إنّ «لبنان هو ملتقى الثّقافات. أكنّ احتراماً وإعجاباً للّبنانيّين. فقد برهنوا عن غريزة بقاءٍ مدهشةٍ ولا ينفكّون يُبهروننا على صُعُدٍ عدّة: الفنّ التّشكيليّ والهندسة والموضة والتّصميم، وهذا مهمٌّ جدّاً. لبنان بالنّسبة إليّ هو نقطة تلاقٍ لأنّه يجمع بين الفرنكوفونيّة والأنغلوسكسونيّة، وقد امتلك قبل غيره بكثيرٍ جميع التّكنولوجيا الضّروريّة للنّشر. هذا الولوج إلى التّكنولوجيا لم يجرِ بالطّريقة عينها في العالم العربيّ، فنحن مثلاً، تخلّفنا قليلاً عن الرّكب. وقد أبرز أيضاً هذا الولوج الذي حصل على نحوٍ أكثر تطوّراً وسرعةً في الشّرق الأوسط، انفتاحاً على الفكر العالميّ مخلّفاً وراءه ترجماتٍ جميلة. لقد بات بإمكاننا اليوم أن نقرأ لفلوبير وسارتر وموليار باللّغة العربيّة. أنا مثلاً قرأت كتاباً لبنانيّاً أثّر فيّ كثيراً وهو «الحيّ اللاّتيني» لـ سهيل إدريس.

كان لبنان نوعاً ما بوّابةً لنا نحن الذين لم يكن بإمكاننا التّوجّه إليه. تخيّلوا في نهاية الخمسينيّات كيف أنّه كان يسمح لنا بالسّفر والذّهاب في مخيّلتنا إلى البعيد».

مقالات قد تثير اهتمامك